ما أن تيمم وجهك صوب تركيا حتى تهبط في مضارب "ابو الاتراك" حيث مطار اتاتورك، وما ان تخرج من المطار حتى تجد الشوارع ملأى بالصور والاعلام والشعارات والاعلانات استعدادا لواحدة من اهم الانتخابات ان لم تكن الاهم على الاطلاق في التاريخ التركي المعاصر، الصور الضخمة للمرشحين يغيب عنها نجوم السياسة الاتراك الكبار فلا صور اردوغان ولا عبدالله غل وليس غير احمد داوود اوغلو وباقي اعضاء حزب العدالة والتنمية المرشحين يقابلهم خصومهم التقليديون من حزب الشعب الجمهوري المعارض بزعامة السياسي المخضرم كمال كليجدار اوغلو.

هذا المشهد المكتظ بالصور والشعارات والسيارات التي تمر محملة بمكبرات الصوت التي تبث الاناشيد الحماسية واحاديث المرشحين ستتضاءل الى اقل القليل وانت تطأ مدينة اقتصادية وتجارية وسياحية مهمة مثل انطاليا، وحيث الحياة العصرية تدب دبيبا هادئا على ضفاف المتوسط ومياهه الزرقاء وحيث المنتجعات السياحية المميزة، هناك سيقل عدد النساء المحجبات في الاماكن العامة قياسا بما تشهده في اسطنبول كما ستقل صور اردوغان ورهطه، هذا المشهد الذي لفت نظري وانا ازور المدينة وهي في خضم ايام التحضيرات لهذه الانتخابات الحاسمة، هذا المشهد يختصر الواقع السائد ما بين تركيا العلمانية وتركيا التي يريد لها اردوغان نسخة اسلاموية محدثة مع صبغة اخوانية لا تخطئها عين ولا عقل.

فأردوغان الذي دخل قويا الى الحياة السياسية بفضل سلم الصعود العظيم الذي كان الفضل فيه للراحل نجم الدين اربكان وللخصم اللدود فتح الله غولن، يجد اردوغان نفسه امام استحقاق يسعى اليه بلا هوادة وتختصره كلمتان هما "السلطة المطلقة" وتوصيفها الادق ان تركيا الحديثة اليوم في امس الحاجة الى استعادة عصر السلاطين واستعادة عظمة الدولة العثمانية بأمجادها وهيمنتها وسطوتها وبطشها وفتوحاتها، ولهذا لا يتورع اردوغان ان يعد نفسه امتدادا لأولئك السلاطين العظام.

ها هو وسط حشود حزب العدالة والتنمية في الاناضول يخطب قائلا: "من ارسلان الى محمد الفاتح، من سليمان القانوني الى سليم الاول، من السلطان عبدالحميد الى مصطفى اتاتورك، خط المئات، الالاف، بل ملايين الابطال تاريخ هذه البلاد".

اجل، انهم هؤلاء السلاطين العماليق الذي تحوم سطوتهم وبأسهم وتاريخهم من حول اردوغان، ولكي يضع الامور في نصابها ولكي يكون هو في المناخ الصحيح الذي يشبه مناخاتهم فقد عاد الى اللغة العثمانية الام ورسخ دراستها لدى اطفال الاجيال الجديدة كما رسخ الهوية الاسلامية ملمحا ومصرحا بالنزعة الاخوانية بمناسبة ومن دون مناسبة والا فما معنى تلويحه بشعار رابعة الاخوانية المصرية في اغلب لقاءاته الانتخابية ولدى تحيته لجمهوره.

معارضو اردوغان على الجهة الاخرى لا يخفون هلعهم من النزعة التسلطية الاردوغانية التي قدمت نزعة الاستبداد في قالب ديموقراطي، كان شعار حماية الدولة التركية سوطا على ظهور الخصوم حتى سجلت تركيا الاردوغانية اكبر عدد من الصحافيين الذين يقبعون في السجون.

في المقابل لا يريد اردوغان من الاتراك ان ينسوا كيف حقق هو وحزبه ومنذ العام 2002 وحتى اليوم قفزات هائلة على صعيد الاقتصاد التركي والحياة الاكثر توازنا ورخاء للطبقات الفقيرة وطبقة صغار الموظفين كما انه هو الذي وجه ضربة قاصمة للجيش، الاداة التقليدية للانقلابات عندما اعاده الى ثكناته وحجمه من التدخل في الحياة السياسية بل انه مضى قدما في زج جنرالات كثر في السجون بتهم التآمر على الدولة والتحضير للانقلاب.

وانت تتحدث الى المواطن التركي العادي سيذكرك بهذه الانجازات وانه يريد لاردوغان ان يمضي في مسيرته ومشاريعه العملاقة التي وعد بها الشعب والتي ستتوج في مدة اقصاها العام 2023 ومنها انشاء جسر البوسفور العملاق والمطار الجديد وخطوط القطارات السريعة التي ستربط اسطنبول وانقرة وغيرها بأنطاليا ومدن اخرى.

وفي انطاليا مثلا ومع النزعة الاتاتوركية المستحكمة هناك، من خلال طبقة من الاثرياء، يشير مواطن تركي التقيته الى صورة لطفي ايلفان، احد دعامات حزب العدالة والتنمية في تلك المدينة تسبقه صور القطارات السريعة التي يبشر بها وان الزمن بين اسطنبول وانطاليا سوف يتحول من 14 ساعة بالسيارة الى اقل من 5 ساعات بفضل نظام القطارات السريعة التي اطلقتها حكومة اردوغان ويبشر بها ايلفان في حملة دعائية كبيرة، يعلق ذلك المواطن، نعم انهم بارعون في اطلاق الوعود لكنهم جوعى للسلطة والاستحواذ على حياة الاتراك.

ما يسعى اليه اردوغان وما هو مصمم عليه هو الوصول الى الهيمنة المطلقة على البرلمان من خلال الحصول على قرابة 368 مقعدا من اصل 549، هذه الاغلبية المريحة اذا ما حصل عليها فأنها ستتيح له تعديل الدستور او تغييره حتى من دون اللجوء الى استفتاء عام وخلاف ذلك اذا ما حصل على قرابة 330 مقعدا فأنه سيكون مضطرا الى اللجوء الى الاستفتاء، هذا الواقع هو الذي تحبس له المعارضة انفاسها وكذلك تترقبه شرائح واسعة من العلمانيين والمعادين لحزب اردوغان بكثير من القلق، فإذا ما استوى الامر لاردوغان وحزبه فأن تركيا اخرى ستولد من جديد.

مشهد معكوس يخشاه كثير من الاتراك، والمقصود به ساعة ان انهى مصطفى كمال في العام 1924 عهدا في حياة الامة التركية واسس عهدا آخر ساعة ان ابلغ السلطان عبدالحميد الثاني انتهاء تلك الحقبة وبدء حقبة ابو الاتراك الذي حكم خمسة عشر عاما فقط (1923 – 1938) كانت كفيلة بإنتاج دولة تركية عصرية قوامها فصل الدين عن الدولة والغاء اسلامية الدولة فضلا عن الغاء التشريع وفقا للعقيدة الاسلامية الى ما هنالك من اطلاق الحريات الشخصية وحقوق المرأة والزواج المدني غير الديني.

المشهد المعكوس هو ان يأتي اردوغان ممتطيا صهوة سلطان من سلاطين العثمانيين ليبلغ عن وفاة المرحلة الاتاتوركية ونفض اليد عن ارث ابو الاتراك الى عهد جديد، يريد من خلاله اردوغان بالدولة التركية ان تعيد امجاد "الخلافة" على صعيد العالمين العربي والاسلامي، ولاشك انه سعيد بتوفر كثير من المناخات لذلك من خلال انهيار حكومات عربية مجاورة وانزلاق اخرى الى حروب اهلية وطائفية مما يسهل العودة الامنة للعب دور في تشكيل مستقبل تلك الدول والمنطقة بأسرها واما على صعيد الداخل فأنه يعني الاجهاز بشكل نهائي على علمانية الدولة واتباعها ولجم كافة السلطات وفي مقدمتها الجيش واخضاعها جميعا لقبضة اردوغان وحزبه.

 

طاهر علوان