مطلع العام الماضي، كتبت مادة تحت عنوان، جاء بصيغة سؤال: "هل غربت شمس الاردوغانية؟" والغروب يعني بالضرورة، ان هناك شروقا سبقه، فمتى بدأ؟

ولدت الاردوغانية بطريقة قيصرية من رحم الاتاتوركية بعد ان تخمرت فيه طويلا، نتيجة حدة العلمانية الاقصائية التي مارسها اتاتورك ومن جاء بعده، في بلد مسلم، كردة فعل على هزيمة امبراطورية الخلافة الاسلامية في الحرب العالمية الاولى، ليجد الجنرال التركي المثقل بثقافة الغرب فرصته في الذهاب بتركيا الى اوروبا، ويدير ظهره تماما للشرق الاسلامي الذي خذل الخلافة وتحالف مع قوى الغزو الصليبي او هكذا قرأ كثيرون، وقتذاك، الحدث الكوني الذي مازالت آثاره السياسية وغير السياسية ماثلة امام الاجيال.

استقرت تركيا العلمانية، عقودا طويلة، على قوانين صارمة، تربت عليها اجيال من الاتراك الذين لم ينس اغلبهم جذره الروحي، بالرغم من محاولة اجتثاثه بطريقة ناعمة من خلال الاندماج بالنموذج الاوروبي المبهر، وعندما توفر الخيار امام الناخب التركي بعد تعديل القوانين بما يسمح بوجود أحزاب اسلامية، قبل نحو عقدين، أثارت صورة نجم الدين اربكان في اعماقه نكهة تركيا القديمة، الاسلامية، لا سيما ان ظلال المآذن في المساجد الكبرى التي بنيت من اموال الولايات العثمانية، ظل يبعث في نفوس الاتراك شعورا بالقطيعة الروحية مع الغرب المسيحي، ويستحضر صور قرون الزهو الآفلة مع الامبراطورية مترامية الاطراف، وهكذا تسلل الاسلاميون الاتراك الى السلطة وهم مجللون بتلك الهالة الروحية التي تنطوي على نزعة قومية، مغمسة بكبرياء الرئاسة الاسلامية التي امتدث نحو سبعة قرون، كانت فيها الاستانة احد اهم اقطاب العالم.

بعد أن فتح اربكان، مؤسس الحركة الاسلامية الحديثة في تركيا، الابواب الحديدية، ودفع ثمن مغامرته تلك، بإقصائه وسجنه، من قبل الجنرالات الاتاتوركيين، كان امام اردوغان، الزعيم الاخواني الصاعد، ان يفاضل بين ان يعمل على تدمير النموذج الاتاتوركي الذي ترسخ بشكل يستحيل اقتلاعه مرة واحدة، وبين ان يهادن هذا النموذج لحين تمكن حزبه من الامساك جيدا بالسلطة ليبدأ رحلة التغيير من اجل تكريس نموذجه واقامة نظام جديد، ادرك العلمانيون الاتراك بوادره منذ البداية، لتبدأ رحلة صراع معلن وخفي منذ نحو ثلاثة عشر عاما.

لا احد يجادل في ان النموذج التركي الاسلامي، كان متفردا، أي حكومة اسلامية بنظام علماني، ووجده الكثيرون من المثقفين العرب بعد الربيع العربي بمثابة العزاء في ظل هيمنة الاسلام السياسي، وصاروا ينادون بالاردوغانية نموذجا للحكم، ولعل تونس كانت التجربة الاقرب نسبيا لذلك، الاّ ان انغماس اردوغان، لاحقا في التدخل السافر بشؤون البلدان العربية لصالح الاخوان المسلمين ودعمه لقوى التطرف والتكفير لتحقيق اهداف سياسية، افصح عن دخيلته العقائدية التي رافقتها تغيرات تكاد تكون جوهرية في شكل نظام الحكم بتركيا، ما عرّى الاردوغانية امام الجميع وصار ينظر اليها بوصفها مشروعا مشوها للخلافة بفعل تحالف اردوغان هذه المرة مع الغزو الصليبي الجديد! وليس نموذجا عصريا للحكم الاسلامي، وهكذا سقط هذا النموذج ولم يعد يحتذى.

 

عبدالأمير المجر