أهم وأكبر خدمة يمكن أن يقدمها الإسلاميون للشريعة وتطبيق الشريعة هي إطلاق الطاقات الإسلامية المعطلة، ودعم مبادراتها وفاعليتها...فهذه الطاقات والفعاليات هي المعول عليها في تطبيق الجمهرة العظمى من الشريعة، وهي التي ستشكل الرافد والسند القوي لكل المبادرات الحكومية والبرلمانية المندرجة في تطبيق الشريعة والرامية إلى ذلك" . (أحمد الريسوني، فقه الثورة، ص.77)

ترى، ما القصد بالجمهرة العظمى في دعوة الريسوني ؟ وما قصده بالطاقات والفعاليات المعول عليها في تطبيق الجمهرة العظمى، وتقديم السند للحكومات الإسلامية في تطبيق الشريعة؟

يعد أحمد الريسوني، نائب يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والرئيس السابق لجماعة التوحيد والإصلاح بالمغرب، أكثر الأسماء الممثلة لتيارات وأحزاب الإسلام السياسي حضورا خلال السنوات الأخيرة في فضاء النقاشات العمومية وكتابات الرأي في المنابر الإعلامية ومواقع الانترنت، وفي الملتقيات والمنتديات التي تنظمها تيارات الإسلام السياسي والمؤسسات والمعاهد والجمعيات التابعة لها في عدة بلدان خاصة بمصر ودول الخليج. هذه اللقاءات التي تعد فرصا سانحات للسيد الريسوني يحضرها مبادرا ومدافعا، داعيا ومحمسا، مبشرا ب"الجمهرة العظمى" وباللحظة الإسلامية الموعودة التي تتجسد في رأيه في الانتفاضات ووصول الإسلاميين إلى الحكومات والبرلمانات ورئاسة الدول، والشروع في تغيير القوانين وتطبيق الشريعة إن عاجلا أو آجلا، وذلك بالاعتماد أساسا واستراتيجيا على دعم الشعوب التي أقدمت على التنظيمات والتيارات الإسلامية التي يعتبرها صاحبة الحظوة والقبول والإقبال.

وقد أصدر الريسوني سنة 2013 كتابا عنونه ب"فقه الثورة"، ألفه كما ذكر في مقدمته، استجابة لطلب أحد المتصلين به من ساحة التحرير بمصر إبان الاعتصام، تناول فيه عدة قضايا سياسية من منظوره الفقهي، ومنها تساؤله في البداية: هل علينا الآن أن نرضي الجماهير التي صوتت علينا، ونعطي الأولوية لطلباتها ورغباتها ومصالحها، أم علينا أن نرضي الشرع ونعطي الأولوية والكلمة العليا لأحكامه؟

ووعيا منه بصعوبة التوفيق بين تطبيق الشريعة والوفاء بمبادئ الديمقراطية والالتزامات الحقوقية والتشريعات الدولية، وإرضاء الناخبين الذين يعرفون تعددية كبيرة في انتماءاتهم السياسية والثقافية وانتظاراتهم المجتمعية، يوصي الريسوني الحركات والأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى الحكم بالدفع، شيئا فشيئا، نحو تصحيح التشريعات والسياسات، حتى لا يبقى فيها تعارض ولا تضاد مع الشريعة، بل حتى تصبح نابعة منها، وهو ما لا يمكن تحديد خطواته –يقول الريسوني- إلا في حينه وسياقه، وما يمكن عاجلا وما لا يمكن إلا آجلا (ص.88).

فتحقيق ما يسميه بالجمهرة العظمى، أي انخراط أعداد كبيرة من المواطنين في المشروع الإسلامي وتعاطفهم معه، وإقدامهم على مبادرات كثيرة في فضاء المجتمع، وفرض ضغط جماهيري على مختلف المكونات الأخرى وعلى مؤسسات الدولة، هو السند الذي سيحقق للأحزاب الإسلامية على المدى المتوسط والبعيد التمكن من الحكم ودواليب المؤسسات وترسيخ بنياتها وفرض مشروعها واختياراتها بما في ذلك تطبيق الشريعة وتغيير القوانين وأسلمة الدول أكثر مما هو قائم، أو بالأحرى "تطريفها ودعشنتها".

والسؤال المطروح هو: أليست "المبادرات" والسلوكات المتكررة والآخذة في الانتشار التي يقدم عليها بعض الأفراد خلال الأيام الأخيرة بعدة مدن بالمغرب في محاولة لفرض أفكارهم وقناعاتهم على الآخرين والقيام مقام الدولة والأمن في الفضاء العام، كمهاجمة فتيات بسبب لباسهن وشبان بدعوى أنهم مثليين، أليست بممارسات تندرج في سياق الدعوة إلى تحرير المبادرات وفعالياتها والضغط لتحقيق الجمهرة من الشريعة، كما يدعو إلى ذلك الريسوني؟

من الواضح أن هذا المسعى التسلطي الذي أفصح عنه الفقيه وأوصى به الأحزاب الإسلامية، يتنافى ومفهوم الديمقراطية ويتعارض والتزامات الدول على المستوى الحقوقي والتشريعات الدولية وتدبير التعدد والاختلاف، ويتجاوز مستوى اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع إلى صعيد إلغاء كل المصادر والمرجعيات الأخرى. وهو تصور فقهي وسياسي يعتبر الديمقراطية مجرد مطية للوصول إلى الحكم والاستفراد به، كما يتنافى وسياق التغيير وأهداف انتفاضات الشعوب وسعيها إلى الديمقراطية والكرامة والحقوق والحريات.

ويتضح أن مشاركة تيارات وأحزاب الإسلام السياسي وانخراطها في آليات التدبير الديمقراطي للتعددية القائمة، والمشاركة بجانب المكونات الأخرى في المجالس التأسيسية والبرلمانات والحكومات، وإذا استحضرنا دعوة الريسوني وغيره من فقهاء وممثلي الإسلام السياسي، لا يعدو تكتيكا مرحليا في انتظار أن تحقق جمهرتها العظمى بالتوغل في المجتمعات وبنيات المؤسسات والتمكن من مراكز القرار والتغيير، حينما لن تتوارى عن فرض مشروعها وتطبيق وعودها الحركية والدعوية، والاستبداد بالحكم، وهو الاستبداد الذي تستطيع بتواطؤ مع الفئات المغبونة وبمعية فقهائها ومتزعميها، أن تغلفه بكامل الشرعية الدينية والمصوغات الفقهية ليصير شريعة إلاهية واستبدادا حلالا!


رشيد الحاحي