يجنح كثير من الناس في عرض العبادات بشقها الفقهي منفصلاً عن شقها الإيماني والتزكوي، ومن آثار هذا أن تخرج العبادة بلا روح، فتؤدى كحركات أكثر من كونها عبادة، مع كون العبادة أداء شيء افترضه الله تعالى، يتقدم به المسلم إلى ربه عز وجل ، وكل عبادة يجب أن تحقق جزءًا من عبودية العبد لربه سبحانه وتعالى ؛ فالعبادة من العبد إلى المعبود؛ فالحج يجب فيه أداء الفريضة وإتيان النسك على الوجه المطلوب من المسلم، كما أنه يجب أن يصاحبها سلوك المسلم.

ربط القرآن بين العبادة وأخلاقها

ومن اللافت للنظر في القرآن الكريم أن الله تعالى ما ربط بين العبادة والأخلاق والسلوكيات، كما ربط بينها وبين الحج.

فبعد الحديث عن الحج {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، قال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. فحرم الله تعالى عبادة الأوثان كما حرم قول الزور، وقرنه بالشرك به عز وجل.

ومن الأمور التي حرمها الله تعالى في الحج المعاصي، وخاصة السباب والشتم والقذف، قال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. وقد جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". فحرم الله تعالى الجماع والكلام حوله وذكر النساء، كما حرم الفسوق والسباب، كما حرم أيضًا المجادلة بغير حق؛ حتى يكون المسلم نقيًّا من كل شائبة تشوبه؛ من قلبه بالشرك، ومن لسانه بالسباب والمجادلة الباطلة؛ لأن لهذا أثرًا على القلب. ولذا بعدما ذكر الله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، قال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ} [البقرة: 197]. فكان البُعد عن السلوكيات الخاطئة مما يخرجه الإنسان بلسانه أو بجوارحه، مما يرزق المرء التقوى؛ لما لأقوال اللسان وأفعال الجوارح من الأثر في القلب، الذي هو محل التقوى.

وفسر بعض المفسرين قوله: "ولا جدال" أي: لا مخاصمة؛ لأن أماكن الحج لا تجوز فيها المخاصمة، وفسره بعضهم بالمراء، وبعضهم بالغضب، وقد يعبر عنه بكل ما فيه شر في التعامل مع الغير؛ لكي يكون الحج عبادة في ذاته، ويحمل في طياته المعاملة الحسنة مع الغير كأثر من آثاره؛ ليتربى المسلم على الأخلاق الحسنة في الحج، ويطبقها أيضًا فيما بعد الحج، فيخرج من الحج حسن الخُلُق كثمرة من ثماره الطيبة.

الرسول معلم الأخلاق في الحج

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه السلوك في الحج كما يعلمهم الأحكام والفقه؛ فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجًا، حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلستْ عائشة إلى جنب رسول الله  وجلستُ إلى جنب أبي، وكانت زمالة أبي بكر رضي الله عنه وزمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر رضي الله عنه ينتظره إلى أن يطلع عليه، فاطلع وليس معه بعيره، فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة. فقال أبو بكر رضي الله عنه : بعير واحد تضله؟! فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسَّم ويقول: "انظروا إلى هذا الْمُحرِم ما يصنع".

فكره الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب الغلمان في الحج؛ لأن المسلم عليه أن يعيش روح الحج وجوَّه، وأن ينزل نفسه عما يشوبها في الأحوال العادية، وليرتفع درجة أعلى من درجته. وكان هذا الإرشاد النبوي يحقق علو السلوك والتعامل مع الغير حتى مع صحابي كأبي بكر رضي الله عنه ، مع ما عُرف عنه من حُسن الأخلاق.

ولكي نستفيد من هذا الأمر بشكلٍ عملي، نورد بعض الصور التي يفعلها الناس من السلوكيات الخاطئة، منها على سبيل المثال:

التزاحم في الطواف

التزاحم في الطواف، وعدم الترفق بالنساء وكبار السن؛ فربما أدى ذلك إلى وقوع النساء، أو وقوع كبار السن مطروحين أرضًا، ويأتي ذلك حرصًا من كثير من الناس على أن يكون قريبًا جدًّا من الكعبة، وأن يتعلق بأستارها، والقرب من الكعبة والتعلق بالأستار لا بأس به، بل هو مما يثير شعائر الحب والشوق، ويظهر التضرع والتقرب إلى الله تعالى في بيته الحرام، غير أن الحرص على هذا القرب والتعلق بأستار الكعبة لا ينبغي أن يكون على حساب إيذاء الناس؛ لأن القرب والتعلق أمر مندوب إليه، وإيذاء الناس محظور شرعًا، كما أنه يذهب روح عبادة الطواف؛ فإن وجد الإنسان فرصة للقرب والتعلق فلا بأس، وإن كان الطواف فيه زحام شديد؛ فمساحة الطواف حول الكعبة غير قليلة، وليعِشِ المسلم الطواف بروحه وجوهره حتى يؤتي ثمرته في قلبه.

التقاتل لتقبيل الحجر الأسود

ومن الأمور التي تظهر في الطواف أيضًا الإصرار على الوصول للحجر الأسود، وتقبيله بدلاً من لمسه أو الإشارة إليه، حتى يكاد بعض الناس أن يغمى عليه في محاولة الوصول. ولقد رأيت بعيني أحد الناس ممسكًا الحجر الأسود وهو يقبِّله بعنف لفترة طويلة جدًّا، وبحكم كوني شابًّا وقد استطعت أن أكون قريبًا منه خاطبته: يا أخي، لقد قبلت الحجر، فاترك لغيرك فرصة. فقال لي بصوت عالٍ: "يا عم روح، هي دي فيها غيري". فتركت محاولة التقبيل، وطفت بالبيت مكتفيًا بالإشارة إلى الحجر، وهو كافٍ كما يقول الفقهاء.

ويمكن ترك تقبيل الحجر في الأوقات التي يقلُّ فيها الزحام؛ كوقت ما قبل الفجر، فيمكن للمرء أن يذهب قبل الفجر ويطوف بالبيت؛ فالطواف سنة دخول البيت الحرام، أو ما بعد الفجر، أو أي وقت يرى فيه أنه يمكن له التقبيل أو اللمس.

التزاحم عند رمي الجمار

ومن السلوكيات التي يحرص عليها الناس رمي الجمار بنوع من التشنج، وكأنه يضرب الشيطان فعلاً، وهو في الحقيقة رمز لإرغام الشيطان، وهذه العبادة، وهي عبادة رمي الجمار ترغيم للشيطان، لكن هذا الترغيم لا يأتي من التشنج والتزاحم الشديد الذي يسبب -في أحايين ليست بالقليلة- وفاة بعض الناس، ويمكن هنا الاعتماد على الرأي الفقهي القائل بجواز الإنابة في الرمي، خاصة عن النساء والأطفال، كما يمكن التوسعة في وقت الرمي بخلاف ما قاله جمهور الفقهاء؛ فمن المعلوم أن رمي الجمار في الأيام الثلاثة يكون بعد الزوال على رأي جمهور الفقهاء، ولكن أجاز الأحناف وبعض الفقهاء المعاصرين كالشيخ الغزالي والقرضاوي وابن جبرين وغيرهم بجواز الرمي قبل الزوال؛ تيسيرًا على الناس.

على عرفات

ومن أبرز السلوكيات التي تظهر مخالفة أدب الإسلام ما يفعله بعض الحجاج في الوقوف على عرفات؛ حتى وصل الحال ببعضهم أن يأتي بعض المنكرات على عرفات، كشرب الدخان بأنواعه، والمزاح الكثير بالأيدي، وغيرها من المخالفات السلوكية في عرفات، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الحج عرفة"؛ فإن هذا يعني أن يشغل المسلم نفسه في يوم عرفة بكثرة الطاعة والدعاء والتضرع والتذلل لله رب العالمين، عسى الله تعالى أن يجعله من عباده المقبولين. فليتحلَّ كل حاج بالرحمة والسكينة والتلطف مع الغير، والحرص على إخوانه حتى يخرج بثمرة الحج "من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، كما أخبر المعصوم .