في واقعة وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش وحكاية الآمر بالصرف في صندوق تنمية العالم القروي، بدا واضحا منذ البداية، أن الإشكال أكبر من تمرير مادة في قانون المالية لسنة 2016 ، أو تسريب معطيات حولها للصحافة، وأعمق من مخالفة دستورية صريحة أو تحرش باختصاصات رئيس الحكومة.

إننا بكل يقين أمام جولة جديدة من جولات الصراع الدائر في البلاد منذ سنوات، بين منطق يكرس الجمود والغموض في تدبير الشأن العام، ويقفز على كافة القوانين والأعراف الإدارية، تطبيقا لمقاربة لا تؤمن إلا بالتعليمات، وتضرب بكافة المواقع الانتخابية عرض الحائط غير معترفة بشيء اسمه ديمقراطية وإرادة مواطنين واختياراتهم، وغير آبهة بكلفة هذا المنطق على صورة البلاد عند المراقبين خاصة في الخارج، وبين منطق يحاول أن يجد له موطأ قدم في المشهد من بين فرث ودم، ينتصر للمؤسسات ولانعكاس رغبات المواطنين على تركيبتها وما يخرج عنها، حريص على جعل صورة دولة القانون والمؤسسات حقيقية وليست مجرد شعارات تردد بلغة خشب في المنتديات واللقاءات والرسائل والخطب.

لذلك فإن استدعاء النقاش القانوني والدستوري وحدهما في هذه الواقعة، ينم عن سوء فهم لطبيعة الإشكال فيها، وقد يكون هذا النقاش تغليطا مقصودا بهدف التضبيب المفضي الى التيه في تشعباتها، وإبعادا عن سبق إصرار وترصد عن مسرح الوقائع وحجبا لمعطياتها المحددة في استيعابها.

من أوحوا بحكاية المادة 30 من قانون المالية، لا يُعتقد أنهم أغبياء لدرجة جهلهم بمقتضيات القانون والدستور المتعلقة بتدبير ميزانية الدولة، إنها عملية مدبرة بتخطيط لتحقيق أهداف تتجاوز مسرحية الثقة التي بكى عليها الوزير عزيز أخنوش، وتتجاوز المشهد الذي تحدث فيه وزير المالية محمد بوسعيد عن “رئيس حكومة مغفل”، ولا علاقة لها بما أُثير حول ضعف كفاءة ديوان رئيس الحكومة وخبرائه ومستشاريه.

هذه القصة بلا لفّ ولا دوران تستهدف العلاقة بين رئيس الحكومة والملك، من خلال إشهار أعراف شكلت منذ سنوات مدخلا من مداخل التحكم السياسي في البلاد، الذي عادة يكون من أعراضه تهريب الاختصاصات والبرامج من المؤسسات المنتخبة، وسلب الصلاحيات من المسؤول المنتخب وإسنادها للغير بحجة القرب !

القائمون على الحكاية يعرفون جيدا أن البلاد ماضية في التأسيس لعلاقات قائمة على منطق مغاير لما ألفوه بين الفاعلين في مختلف مستويات القرار، يحكمها الدستور صحيح، لكن تؤطرها معطيات سياسية تراعي مصلحة الوطن وتراعي التراكمات المكبِّلة، وحتما الاستمرار في بناء هذا النوع من العلاقات يقلص هامش تحركاتهم أو على الأقل سيجعلها مكشوفة وبادٍ شرودها، لذلك كان ضروريا القيام بهذه العملية على ما فيها من خشونة وعنف وتعسف، ومع ما فيها من نقض للغزْل !

عموما قد يستطيعون تأمين النجاح في هذه العملية الشاردة في سياق الإصلاحات التي تعرفها البلاد، من خلال رص صف أذرعهم في الحكومة وفي البرلمان وفي الإعلام، ومن خلال آليات أخرى يُتقنونها تتيحها لهم معطيات التاريخ والاستثمار المشترك في الثروات تدبيرا واقتساما، لكن عليهم أن يضعوا في حسبانهم أن هناك عالم حر يتابع ما يقع في المغرب، كيف سيقنعونه بأن المغرب جاد في البناء الديمقراطي المؤسساتي الذي سيخول له مكانة يستحقها بين الدول، كيف سيقنعونه بأن وزيرا سيسطو على اختصاص دستوري وإداري لرئيسه بدعاوى ملتبسة لا يفهمها العالم الحر الديمقراطي الذي نحن في حاجة إلى مواقف مبدئية منه مساندة للمغرب في كل قضاياه !

اليوم لا ينبغي تحريف النقاش الحقيقي حول هذه المادة التي تكاد تكون لقيطة في قانون المالية، بتوجيهه صوب رئيس الحكومة وحزبه، وإنما ينبغي توجيهه إلى الفاعلين الرئيسيين الظاهرين والمستتيرين، أما عن رئيس الحكومة فقد حسم في مواقفه المرتبطة بالمربع الذي يشترك فيه القرار مع الملك، بناء على أطروحة المؤتمر السابع لحزبه التي جاء فيها أن الحزب سيعمل على إرساء علاقة متوازنة مع المؤسسة الملكية على قاعدة الإصلاح وأرضية التعاون والتفاهم والثقة المنتجة في إطار مقتضيات الدستور، ولا مجال للاستجابة لاستفزاز أو استدراج في هذا الباب.

اليوم كذلك على المعنيين بسؤال دولة المؤسسات أن تتحرك لتنتصر للقانون ولشرعية الدستور، لا لتنصر رئيس الحكومة، وإلا سنكون فعلا إزاء مؤشر سلبي على عودة مفترضة للحيوية إلى هيآت الوساطة من أحزاب وبرلمان، ومن شأن ذلك أن يشكك في القدرة على تحصين مكتسبات السنوات الأربع الماضية المتعلقة بتمكين المؤسسات المنتخبة ومنها الحكومة ورئاستها من لعب أدوارها بدون وصاية أو تدخل.