بعد تقديم مشروع قانون مالية 2016، انطلقت وبشكل متسارع مجموعة من النقاشات السياسية والتفاعلات الإعلامية والتوترات الحزبية التي ركزت واختزلت المشروع في المادة 30 منه وفي عدم دستوريتها وعدم احترامها لا للقانون ولا للعرف ولا لتراتبية المسؤوليات بين رئيس الحكومة ووزير الفلاحة، الأمر الذي أدى إلى شبه إجماع مجتمعي على رفضها لما يمكن أن يترتب عليها من إضعاف ومس بصلاحيات أهم ثاني مؤسسة وطنية بعد المؤسسة الملكية. وحسب المحللين السياسيين والمتتبعين للشأن العام، فإن هذا الوضع لا يعدو أن يكون ارتداد لنتائج انتخابات 4 شتنبر والتي تصدرها حزب العدالة والتنمية، الذي تضاعفت مقاعده ثلاث مرات ونصف وانتقلت من 1513 سنة 2009 إلى 5021 سنة 2015، وتبوَّأ المرتبة الأولى على مستوى المدن الكبرى حيث ترأس 54% من الجماعات ما فوق 100 ألف نسمة -19 مجلس من أصل 35-، وظفر بعمادة 100%من المدن الست التي تشتغل بنظام المقاطعات، وفاز برئاسة جهتين إستراتيجيتين -الرباط وتافلالت- وتنازل عن جهتين لصالح حلفاء الأغلبية، ويشارك في تسيير 4 جهات.

هذه الأحداث وما أثارته من توتر للمشهد السياسي الوطني، غطت على عملية تقييم قانون مالية السنة الماضية والتزامات وبرنامج عمل الحكومة من خلاله، وذلك بغية الوقوف على نجاعتها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأيضا لاعتبارها عملية مركزية ومفصلية في الحياة السياسية. ومن هذا المنطلق، أجمع الاقتصاديون والمتتبعون للتجربة المغربية على أن السمة الأساسية التي ارتبطت بحكومة بنكيران هي تثبيتها لملامح وركائز نموذج تنموي مغربي ينبني على: أولا، تعزيز الطلب الداخلي، بمكونيه الاستهلاك والاستثمار، من خلال مواصلة دعم القدرة الشرائية وتعزيز الاستثمار؛ ثانيا، تنويع روافد النمو بالتركيز على التصنيع وتطوير الاستراتيجيات القطاعية، والانفتاح على أسواق جديدة، انسجاما مع التوجهات الملكية السامية، كدول إفريقيا جنوب الصحراء، ودول الخليج والصين والهند وروسيا وبعض الدول الصاعدة؛ ثالثا، تفعيل الإصلاحات الهيكلية والبنيوية، كإصلاح نظام المقاصة وإصلاح القطاع المالي، وإصلاح العدالة؛ رابعا، تعزيز التماسك الاجتماعي وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية.

وفي هذا السياق، فالذي يمكن أن يؤكد نجاعة هذا النموذج التنموي المغربي، هي طبيعة ومستوى النتائج التي يمكن أن يحققها تنزيل هذا النموذج على أرض الواقع.

فعلى المستوى الصناعي، تم تسجيل تحسن الرقم الاستدلالي للإنتاج الصناعي ب1.4%  خلال الفصل الأول من سنة 2015، بفضل استقطاب استثمارات عملاقة في مجال صناعة السيارات والطائرات والإلكترونيك، كان آخرها مشروع المجموعة الفرنسية “بي إس أ بوجو-ستروين” والتي ستمكن المغرب من تشيد أول منصة صناعية في إفريقيا والعالم العربي والتي تضم وحدتين صناعيتين في مدينة القنيطرة لتصنيع وتجميع السيارات حيث ستبلغ طاقته الإنتاجية 200 ألف سيارة سنويا وسيوفر نحو 4500 منصب شغل مباشر و20 ألف أخرى غير مباشرة، وسيمكن من تطوير فرع للأبحاث والتنمية سيسمح عند استكماله بتكوين 1500 مهندس وتقني متخصص. وبالنسبة للمجال الفلاحي، وبفضل مخطط المغرب الأخضر، استطاعت بلادنا تحسين القيمة المضافة للقطاع الفلاحي، حيث من المنتظر تحقيق مستوى قياسي للمحصول الزراعي يبلغ 115 مليون قنطار برسم سنة 2015، ومكن من تحسين مستوى الأمن الغذائي للمغاربة بتغطية 70% من حاجياتهم من الحبوب و100% من اللحوم والفواكه والخضر. هاذين المعطيين –الفلاحي والصناعي- سيمكنان الاقتصاد الوطني من تحقيق نسبة نمو تناهز 5% بعدما كان في حدود 2.9% سنة 2012.

علاوة على ذلك، وبفضل النهج الإصلاحي الذي اعتمدته الحكومة، بلغ احتياطي العملة الصعبة مستوى قياسي حيث انتقل من  145 مليار درهم سنة 2012  وبلغ 214 مليار درهم سنة 2015، وسيمكن من تغطية 6أشهر و13 يوم من واردات السلع والخدمات؛ وهذا نتيجة ارتفاع كل من الاستثمارات المباشرة الأجنبية بنسبة 22.8%، وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج ب5.2%، وتراجع العجز التجاري ب20.4 %. إضافة إلى ذلك، تراجع عجز ميزان الأداءات -للسنة الثالثة على التوالي- من 9,5% سنة 2012 إلى 2.8% هذه السنة. كما ستعرف سنة 2015 حصر عجز الميزانية في 4.3% بعدما كان في حدود 7,2%  سنة 2012 . وكنتيجة لهذه المجهودات، تقلصت الوتيرة السنوية لارتفاع معدل مديونية الخزينة إلى 1,9 نقطة من الناتج الداخلي الخام نهاية 2014 مقابل معدل ارتفاع سنوي بلغ 3,8 نقطة ما بين 2009 و2013.

كان لهذه النتائج الايجابية المحققة على المستوى الاقتصادي عظيم الأثر على معدل البطالة الذي انخفض إلى أدنى مستوى له منذ 2012، إذ تراجع من 9.3% إلى 8.7%. وكنتيجة لتفعيل قانون المنافسة والأسعار، وتكثيف مراقبة وتقنين السوق وحماية القدرة الشرائية، استطاعت الحكومة التحكم في مستويات التضخم في حدود 1,8%.

بالموازاة مع ذلك، اتخذت الحكومة مجموعة من التدابير لدعم الاستثمار العمومي وتحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار الخاص ودعم المقاولة، نتج عنه تحسن جاذبية بلادنا للاستثمارات الأجنبية المباشرة بما يناهز 23%، وتقدم المغرب في مجال تحسين مناخ الأعمال ب5 درجات وحقق المرتبة 75/189 في الترتيب العالمي حسب تقرير البنك الدولي برسم سنة 2016، أي بحصول تقدم ب21 درجة مقارنة مع سنة 2012، بالإضافة إلى تقدمه ب 5 درجات في مؤشر التنافسية العالمية، وتصنيف المغرب كبلد وحيد في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط الحاصل على مؤشر إيجابي  )+20(للثقة الاقتصادية من طرف المنظمة الدولية لاستطلاعات الرأيGALLUP .

في الشق الاجتماعي، فقد خصصت الحكومة نصف الميزانية العامة للقطاعات الاجتماعية برسم سنة 2015، حيث استفادت ما يقارب 10 ألاف و500 أرملة من الدعم المخصص لهن -كل شهر يصل إلى 350 درهماً عن كل طفل يتيم ما زال يعيش تحت كفالة أمه، ولا يتعدى سن الواحدة والعشرين، شرط ألا يتجاوز مجموع المبلغ 1050 درهما عن كل شهر للأسرة الواحدة – وبأثر رجعي، والحكومة تدرس حوالي 40 ألف ملف في هذا الصدد، كما تم تعميم التغطية الصحية للمعوزين في إطار برنامج راميد الذي بلغ عدد المستفيدين منه حوالي 8,78 مليون ُمعوز، والاستفادة من مخصصات مالية فاقت 3 ملايير درهم بين سنتي 2014 و2015، لشراء الأدوية وتأهيل المستشفيات. كما استفاد 805 آلف تلميذة وتلميذ من برنامج تيسير بمبلغ مالي يناهز 500 مليون درهم، واستفاد 3,9 مليون تلميذة وتلميذ من المبادرة الملكية “مليون محفظة” بغلاف مالي قدره 300مليون درهم. إضافة إلى هذا استفاد 9,75 مليون شخص، 50% منهم ينحدرون من العالم القروي من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي فاقت استثماراتها 29 مليار درهم خلال الفترة 2014-2005. علاوة على ذلك،فاقت استثمارات برنامج التأهيل الترابي الموجه بالأساس للنهوض بالتجهيزات الأساسية بالعالم القروي 4.3 مليار درهم. وبفضل الاستثمارات المُرصدة لبرامج الكهربة القروية، والتزويد درهمبالماء الصالح للشرب، والطرق القروية، بلغت نسبة الربط بها على التوالي 99%  و94,5% و78%. كما تم تفعيل صندوق التعويض عن فقدان الشغل، وتخصيص الموارد المالية اللازمة له.

رغم هذه المجهودات المبذولة، فما زالت هناك مجالات تعاني من بعض التحديات والمشاكل، وخصوصا بالنسبة لقطاع التعليم والصحة، وفي هذا الإطار فالحكومة مطالبة لبذل المزيد من الجهد للاعتناء أكثر بهاذين الركيزتين الاساسيتين إن هي أرادت بناء نموذج تنموي شامل ومتوازن.

بفضل التوجهات الملكية السامية والنهج الإصلاحي لحكومة بنكيران والذي يقف على الاختلالات ويتخذ الإجراءات الإصلاحية ويتصدى لها مع مراعاة التوازن، وما ترتب عن دلك من نتائج إيجابية في المجال الاقتصادي والاجتماعي؛ استطاعت بلادنا استرجاع التوازن للإطار الماكرو اقتصادي، والعافية للمالية العمومية وتمكنت من تقوية السلم والتماسك الاجتماعي وتحقيق تنمية اجتماعية متوازنة، الأمر الذي يؤكد صواب اختيارات الحكومة ونجاعة وفعالية النموذج التنموي المغربي، ويُؤكد على ضرورة خلق واستكمال ظروف الإقلاع في قانون مالية سنة 2016 الذي سيمكن لا محالة المغرب من الدخول المستحق لنادي الدول الصاعدة.