موقف المغرب الذي دعا فيه، بداية نوفمبر 2015، منظمة الأمم المتحدة ومختلف هيئاتها إلى الوقوف بجانب «الشعب القبايلي» (هكذا سماه مبعوث المغرب) ومساندته «حتى يتمتع بحقوقه الشرعية في تقرير المصير والحكم الذاتي»، كان مدهشا ومفاجئا وغير متوقع أبدا. ليس لأن المغرب، وطيلة أربعين سنة من الحرب الباردة مع الجزائر، الخالقة والمساندة لجبهة "البوليساريو"، والمعارضة للوحدة الترابية للمغرب، لم يسبق له أن استعمل الورقة الأمازيغية للقبايل لمواجهة خصمه الجزائر، وإنما لأنه استعمل القضية الأمازيغية ضد البلد الجار رغم أنه هو نفسه، مثل الجزائر تماما، لا زال لم يمنح الأمازيغية كل حقوقها في بلدها المغرب. ويكفي التذكير أن لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة نفسها، طالبت المغرب، منذ أقل من شهر فقط على تدخله لصالح "الشعب القبايلي"، إلى مناهضة التمييز ضد الأمازيغية وضمان استعمال اللغة الأمازيغية للتدريس في مختلف الأسلاك التعليمية، كما دعته إلى إخراج القانون التنظيمي للأمازيغية الخاص بتفعيل الطابع الرسمي لهذه اللغة. هذا دون الحديث عن العديد من مطالب الحركة الأمازيغية التي لم تلق، إلى الآن، آذانا صاغية لدى السلطات المغربية. فمن هذه الناحية، لا يختلف المغرب كثيرا عن الجزائر في ما يخص تهميش الأمازيغية، ونهج سياسة التعريب المقيتة.

فانطلاقا من قراءة "ظاهرية" وتبسيطية وسطحية لموقف المغرب المثير، قد يبدو لنا هذا الموقف نوعا من النزق السياسي والهوج الديبلوماسي ليس إلا، إذ كيف يعقل أن من يسكن بيتا من زجاج يرمي جيرانه بالحجارة؟

وهذا ما يطرح السؤال الجدي التالي: وهل الديبلوماسية المغربية "غبية" إلى هذه الدرجة؟ وهل المغرب لا يعرف أن الجزائر قد تطلق عليه النار من نفس البندقية التي وجهها صوبها؟

فهذا التحول في موقف المغرب، لا يمكن أن يكون إذن إلا نتيجة لتحول نوعي في موقفه من الأمازيغية ببلده المغرب أولا. فهو يعرف، وبدون أي شك، أن الجزائر قد تردّ بأن هناك "اضطهادا" للأمازيغيين في المغرب، كما قال مبعوث المغرب عن اضطهاد الجزائر للأمازيغيين في بلدها. فماذا سيكون جواب المغرب في هذه الحالة؟ الجواب الوحيد، الذي يستقيم مع موقفه الجديد، هو أنه يعتبر نفسه بلدا أمازيغيا، وليس مثل الجزائر "العربية" التي تضطهد الأمازيغيين كـ"أقلية" غير عربية. فخارج هذه القراءة، يصعب فهم دفاع المغرب عن أمازيغيي الجزائر.

ولا يمكن فهم حقيقة أن المغرب بدأ يعي ذاته كبلد أمازيغي، إلا إذا فهمنا أنه بدأ يدرك أهمية الورقة الأمازيغية، ليس داخليا فحسب حيث يساهم الاعتراف بها ورد الاعتبار لها في تقوية الوحدة الوطنية، وفي إعمال مبادئ الديموقراطية والإنصاف، وإنما خارجيا أيضا حيث يمكن أن تلعب دورا أساسيا في الدفاع عن الصحراء المغربية. وعدم توظيف الأمازيغية في الدفاع عن الوحدة الوطنية، كان أحد عيوب الديبلوماسية المغربية، التي أضعفت ملف المغرب في مواجهة المناوئين لوحدته الترابية، منذ إعلان محكمة العدل الدولي لرأيها الاستشاري حول موضوع الصحراء المغربية بتاريخ 16 أكتوبر 1975، والذي لم يحسم الأمر بشكل واضح ونهائي لصالح المغرب، إذ أقر بوجود روابط بيعة بين قبائل الصحراء وسلطان المغرب، لكنه ينفي وجود روابط سيادة تتمثل في خضوع تلك القبائل لحكم السلطان وفي أدائها الجبايات.

لكن ماذا يعني وجود روابط البيعة وانتفاء روابط التبعية للسلطة والحكم، كما يشهد على ذلك غياب أي دليل على أن هذه القبائل كانت تدفع الجبايات؟ يعني أن ما يسري على قبائل الصحراء هو نفسه ما كان يسري على كل القبائل الأمازيغية، التي لم تكن تخضع للسلطة المركزية، أي للحكم المباشر للسلطان، ولم تكن تدفع أية جبايات، ولكنها كانت، مع ذلك، تعترف بسلطته الروحية وتقدم له البيعة باعتباره "شريفا" ينحدر من سلالة الرسول (صلعم). فلو أن المسؤولين المغاربة بنوا ملف الدفاع عن مغربية الصحراء، في 1975، على كون قبائل الصحراء هي قبائل أمازيغية، وبالتالي فإن علاقتها بالسلطة المركزية كانت، قبل الاستعمار الإسباني، هي نفس العلاقة التي كانت تربط كل القبائل الأمازيغية للمغرب بهذه السلطة المركزية، لاتخذ هذا الملف مسارا آخر، ولاعتُرف للمغرب بمغربية صحرائه منذ زمان، ومن طرف الجميع. ذلك أنه إذا اعتبرت الصحراء، بناء على غياب تبعية قبائلها لسلطة المخزن، أرضا غير مغربية، فيترتب عن ذلك منطقيا أن أرض الريف غير مغربية أيضا، لأنه لم يسبق لقبائل الريف، بل لكل القبائل بكل المغرب باستثناء تلك التي كان السلطان يتحالف معها لتحميه من القبائل الأخرى، أن كانت خاضعة مباشرة لسلطة المخزن مع أدائها للجبايات. إذن، إذا كانت الصحراء غير مغربية بناء على عدم تبعية قبائلها للسلطة المركزية، فمنطقيا يجب أن يكون الريف ـ بل خمسة أسداس من المغرب التي كانت غير خاضعة لسلطة المخزن، كما نقل ذلك "شارل دو فوكو" في كتابه "استكشاف المغرب" Reconnaissance du Maroc ـ أرضا غير مغربية. وبمفهوم المخالفة، إذا كان الريف جزءا من المغرب، فمنطقيا تكون الصحراء جزءا منه أيضا. أما خضوع كل قبائل المغرب للسلطة المركزية، فلم يتحقق إلا بتدخل الجيش الفرنسي في فترة الحماية.

المسؤولون عن ملف الصحراء المغربية، ولأنهم هم أنفسهم ذوو وعي هوياتي عروبي، ويرون أن قبائل الصحراء هي أيضا عربية لأنها جزء من "المغرب العربي"، فلم يوظّفوا الورقة الأمازيغية للدفاع عن هذا الملف لغياب الوعي الهوياتي الأمازيغي لديهم هم أنفسهم، كما قلت. ولهذا فبدل أن يطلبوا من محكمة العدل الدولية أن تبحث في نوع العلاقات والأواصر التي كانت تربط منطقة الصحراء بالمملكة المغربية، وهو ما أوقعهم في فخ مطلبهم عندما أجابت المحكمة بأن هذه العلاقات لم تكن تشمل التبعية للسلطة المركزية، بدل ذلك كان عليهم أن يطلبوا منها أن تجيب عن السؤال التالي: هل كانت علاقة الصحراء وسكانها بالسلطة المركزية بالمغرب هي نفسها العلاقة التي كانت تربط كل مناطق المغرب وسكانها بهذه السلطة المركزية؟ ولأجابت المحكمة، وهو الجواب الوحيد، أن طبيعة العلاقة كانت واحدة بالنسبة لمنطقة الصحراء وباقي المناطق المغربية. وهو ما يستنتج منه أن الصحراء مغربية بحكم أن المناطق الأخرى، التي كانت تربطها بالسلطة المركزية نفس العلاقة التي تربط الصحراء بهذه السلطة، هي مناطق مغربية وتشكل جزءا من المملكة المغربية.

من جهة أخرى، لو بنى المغرب دفاعه عن صحرائه على الانتماء الأمازيغي لهذه الصحراء باعتبارها بلدا يقع في شمال إفريقيا، وليس في الجزيرة العربية، وبالتالي فهي أمازيغية في انتمائها الترابي، مثلها مثل باقي المناطق المغربية، مبيّنا، انطلاقا من هذا المعطى الأمازيغي، أن ما ترمي إليه "البوليساريو" والجزائر هو بمثابة إقامة جمهورية عربية بأرض أمازيغية، وهو نوع من الاحتلال والاستيلاء على أرض الغير بدون وجه حق، مقدّما كل الأدلة التاريخية والجغرافية واللسنية والتوبونيمية على أمازيغية الصحراء، لو فعل ذلك لسانده كل المنتظم الدولي دون أي تردد، بناء على المبدأ الأممي لرفض الغزو واحتلال أرض الغير. أما وأن المغرب ظل يدافع عن وحدته الترابية كبلد عربي، فإن هذا المنتظم الدولي يفهم قضية الصحراء على أنها قضية داخلية، عربية عربية، تهم العرب المغاربية، الذين يريد جزء منهم أن يستقل بنفسه طبقا للحق الأممي لتقرير المصير.

لا يمكن إذن فهم إثارة المغرب لمسألة القبائل لمحاصرة خصمه الجزائر، التي تعمل على إقامة جمهورية أجنبية على أرض الغير، إلا في إطار تعامله مع هذه المسألة كبلد أمازيغي، حتى يمنع على الخصم استعمال نفس السلاح الذي يستعمله ضده المغرب. وإلا فأن المغرب سيكون مغامرا ومتهوّرا في ديبلومسيته، وفي طريقة دفاعه عن حقه المشروع.

والمغرب هو بالفعل بلد أمازيغي عند أعداء وحدته الترابية من "البوليساريو". فالمعروف أن هؤلاء يسمون المغاربة "ولاد شليحات"، أي أبناء الأمازيغيات، وهو أمر ـ بغض النظر عن استعمال "البوليساريو" صيغة قدحية وتحقيرية (شليحات) ـ صحيح وحقيقي لأن كل أمهات المغاربة أمازيغيات، سواء كن ناطقات بالدارجة أو بالأمازيغية.

قضية الصحراء خلقتها العروبة العرقية خلقا، سواء عندما ساهم بعض المغاربة القوميين في تأسيس جبهة البوليساريو، أو عندما تبنّت الجزائر هذه الجبهة ورعتها واحتضنتها. ومع ذلك ظل المغرب يهادن هذه العروبة ويتزلف إليها ويغازلها، وهي تشيح عنه تمنّعا واستعلاء. وهذا ما يفسر أنه لا توجد دولة عربية واحدة تساند المغرب في صحرائه، بشكل واضح وجلي لا تردد فيه ولا لبس.

فليعد إذن المغرب إلى أمازيغيته ويتصرف، بخصوص قضية الصحراء، كبلد أمازيغي يدافع عن أرضه الأمازيغية التي يريد الغير أن يقيم بها جمهورية عربية أجنبية. ودفاع المغرب عن صحرائه، على مستوى الأمم المتحدة، كبلد أمازيغي، سيكون تصحيحا لديبلوماسية عروبية لم يجن منها المغرب، طيلة أربعين سنة، إلا الخسران المبين. وحتى يكون موقفه من القبايل الجزائرية ذا مصداقية، يحاصر به الجزائر ويحرجها، ينبغي عليه أن يصدر القانون التنظيمي للأمازيغية بمضمون يتلاءم مع كونه بلدا أمازيغيا حقا، ويعمل على إنجاح وتعميم تدريس اللغة الأمازيغية، الذي سيعطي للانتماء الأمازيغي للمغرب معناه الحقيقي.


محمد بودهان