لقد كُتب الكثير حول المأساة المتنامية في سوريا، ولكن كم من هذه الفظائع التي لا يتصورها العقل مطبوعة في ذهن الشعب الأميركي؟ أوباما يرفض كرئيس النهوض لوقف هذا الرّعب الذي لا يُسبر غوره. فالآلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء يُذبحون كلّ أسبوع ونحن ما زلنا نلعب سياسة مع حياة العديد من الناس ممّن لن يستطيعوا الهروب من الموت طالما نحن مستمرين في الجلوس على أيدينا لا نفعل شيئا ً.

إنني أحثّ كلّ قارئ لهذه المقالة أن يتوقف لحظة ويتخيّل نكبة الشعب السّوري، وبالأخصّ الأطفال. هذا ما ستراه: أكثر من 50 ألف طفل تحت سنّ الـ 15 عاما ً قُتلوا. فلو وقف هؤلاء كتفاً على كتف لشكّلوا صفّا ً طوله 80 ميلا ً، أي حوالي 130 كيلو مترا ً. وهناك مليونان ونصف طفل يعانون في مخيّمات اللآجئين، بما فيهم 306 ألف طفل وُلدوا منذ بداية الحرب الأهلية في عام 2011. وثمانية ملايين طفل داخل وخارج البلد في حاجة ماسّة للطعام والرعاية الطبيّة. وأكثر من 15 الف طفل عبروا حدود سوريا بأنفسهم، وكثيرون تُركوا يموتون دون أن يعلموا ماذا حدث لهم ولماذا. وطفل من كلّ ثلاثة أطفال تعرّضوا لعنف ٍ مروّع ضدّ أنفسهم وضدّ عائلاتهم، وأكثر من 2.5 مليون طفل محرومون من التعليم الأساسي.

خذ لحظة ً أخرى وتصوّر أطفالا ً يتم انتشالهم من الأنقاض، والقتلى والمصابين بجروح ٍ خطيرة والفاقدين الوعي وآخرون ما زالوا متنبهين ولكنهم لا يعرفون ما أصابهم ولماذا. لقد تدنّى شأن عدد القتلى من الأطفال والكبار على حدّ سواء إلى مجرّد أرقام، إحصائيّات لا قيمة لها ولم يعد لها صدىً لأننا أصبحنا في هذا العالم مخدّرين بشكل ٍ مريح. وإذا استمرّيت في التخيّل، ترى في مخيلتك أعداد لا تُحصى من الأطفال تنتظر كأكباش الفداء، كأضحية تنتظر الذّبح على مذبح المجتمع الدّولي ذي الإفلاس الأخلاقي الكامل والمطلق.

فماذا حدث لمسؤوليتنا الأخلاقيّة؟ كيف نستطيع أن نشاهد دمار مدينة حلب المنهجي ونسمح بذبح مئات النساء والأطفال الأبرياء؟ إنني أذرف الدموع على كلّ طفل وأبكي لكلّ جسد ٍ صغير لا حياة فيه ولم يعلم أبدا ً ماذا كان يجري حوله، أو لماذا وُلد على وجه هذه الأرض.

لربّما أفظع نتيجة كارثيّة للحرب الأهليّة السوريّة هي ضياع جيلين أو ثلاثة من السوريين حتّى الآن. لا تستطيع الكلمات وصف الفظائع والأعمال الوحشية المستعرة في سوريا، ومع ذلك فإنها تُقابل باللآمبالاة والسخافة من قبل المجتمع الدّولي. أنا أستغرب لما حدث في أميركا، فهل نستطيع الاستمرار في السماح لأنفسنا بأن نبقى صامتين، وإذا كنّا لا ننهض لإيقاف هذا الجنون، فمن سيفعل ذلك؟

كم من مرّات أخرى ينبغي أن نحاول التوصّل لوقف ٍ لإطلاق النار لتقوم روسيا من جانبها بخرقه مرارا ً وتكرارا ً؟ إنّ بوتين ديكتاتور فظّ ومخادع ولا ضمير أو سلوك إنساني لديه. وطموحاته في الشرق الأوسط تفوق حياة كلّ مواطن سوري، وهو أخلاقيّا ً فاسد حتّى العظم.

كان ينبغي علينا أن نعلم بأنه لا تصمد أية إتفاقيّة مع روسيا ما دام بوتين يعتقد بأن الوقت يعمل لصالحه وبأن بإمكانه ترسيخ مكاسبه واستغلال الفراغ الذي تركناه وعدم رغبتنا لوضع نهاية للمجزرة باستخدام القوّة. فمنذ فترة قريبة جدّا ً عبّر وزير الخارجيّة جون كيري، عن إحباطه العميق من نهج إدارة أوباما في حلّ الصراع، وقد أشار بحقّ بأنه إن لم تستند الدبلوماسيّة إلى تهديد حقيقي باستخدام القوّة، فإنه محكوم عليها بالفشل.

وهذا بالضبط السبب الذي جعل بوتين والأسد يشعران أنّ بمقدورهما نقض اتفاقية وقف إطلاق النار الثانية بدون عقاب. وبالفعل، فإن فشل معاقبة الأسد عندما اجتاز الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس باراك أوباما واستخدم الأسلحة الكيميائية في عام 2013 تركته وبوتين بدون ردع لقتل وتشويه الأبرياء، تاركين لا شيء سوى ظلال الجحيم الكامنة وراءهما.

والسؤال الموجه للولايات المتحدة الآن هو: كم من الوقت سنسمح لأنفسنا بالمراقبة من خطّ الهامش ونسمح بالذبح الذي لا يُغفر للرجال والنساء والأطفال الأبرياء بأن يستمرّ بلا هوادة؟ فإذا كنّا نتطلّع إلى التوصّل لهدنة أخرى أم لا، يجب علينا أوّلا ً إرسال رسالة واضحة ولا لبس فيها لبوتين وللأسد.

يجب على أوباما أن يفرض فورا ً منطقة حظر جوّي بالتعاون الكامل مع تركيا المتحمّسة للقيام بذلك، وأن يأذن بقصف مدارج الأسد وحظائر سلاح الجو لتدمير أكبر قدر ٍ ممكن من طائراته الحربيّة وأن يزوّد الثوار المعتدلين مثل الجيش السوري الحرّ الذي تدعمه الولايات المتحدة منذ اليوم الأول بصواريخ أرض جوّ تُحمل على الكتف لإسقاط الطائرات بدون طيّار والمروحيّات التي تطير على ارتفاع ٍ منخفض لإنهاء إسقاط البراميل المتفجرة التي تقتل بلا تمييز وتدمّر أحياء ً بكاملها. ستعيق هذه الإجراءات العسكريّة الرّوس من مهاجمة المناطق التي يحتلها الثوّار حيث أنّ بوتين لا يريد بالتأكيد تصعيد التوترات مع الولايات المتحدة.

قد يبدو هذا وكأننا نشنّ حربا ً بالوكالة ضدّ روسيا. أجل، فليكن، فنحن نشنّ فعليّا ً حربا ً بالوكالة ضد روسيا منذ خمسة أعوام، فنحن ندعم الثوار ضدّ الأسد فيما تساعد روسيا الأسد عسكريّا ً. ومنذ أكثر من عام الآن إنضمت إلى حملته العسكريّة بشكل ٍ علني.

وفي حين أنّ المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" ضروريّة ويجب دحر هذا التنظيم، غير أنه ينبغي ألا يكون ذلك على حساب ترك بوتين والأسد يبيدان الثوار بكلّ حرية وفي العمليّة نفسها قتل أعداد لا تُحصى من المدنيين الأبرياء.

وللتأكيد، عدم رغبة أوباما في اتخاذ إجراءات صارمة وقويّة في سوريا في الأعوام الخمسة الماضية قد أدّى إلى تفكّك البلد، الأمر الذي يعتبر امتدادا ً لحرب بوش الكارثيّة في العراق، ولكن فقط بشكل ٍ آخرٍ.

إنّ اتخاذ مثل هذه الإجراءات العسكريّة الحاسمة ما زال متماشيا ً مع عدم رغبة أوباما في إرسال قوات بريّة في صراع ٍ إقليمي آخر لأنّها: أ) لا تعرّض للخطر أرواح العديد من جنودنا، وب) لا تسبّب أضرارا ً جانبيّة جسيمة. لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي لأن البديل بكلّ بساطة غير وارد ولا مجال للتفكير فيه.

سيكون لبوتين اليد الحرّة تماما ً أن يفعل ما يريد في سوريا وأن يترك الأمر له لبسط نفوذه لدول أخرى في المنطقة، الأمر الذي سيعزّز بشكل ٍ ملموس من مصداقيته كداعم لا يهتزّ لحلفائه ويتعدّى بشكل ٍ خطير على منطقة النفوذ الجيو – إستراتيجي الأميركيّة بدون عقاب.

وإيران من ناحيتها لن تتردّد في زيادة دعمها العسكري والمادي للأسد وترسيخ وجودها في سوريا وقتل أكبر قدر ٍ ممكن من الثوار "باسم الله". أضف إلى ذلك، سيتمّ تشجيعها أكثر لتخويف دول الخليج وتكثيف حملتها العسكريّة في اليمن في سعيها للهيمنة على المنطقة.

وبالنسبة للأسد المستمرّ في كسبه أراض ٍ وهيبة واحترام خلال الأشهر الأخيرة نتيجة دعم بوتين الكامل له لن يكون لديه سببا ً للتنازل أو إيجاد حلّ بالتراضي وسيستمرّ في القتال حتّى القضاء على آخر ثائر لكي يضمن بأن يكون جزءا ً أساسيّا ً لأي حلّ مستقبلي للصراع.

وبالرّغم من أنّ روسيا وإيران والأسد مذنبون بارتكابهم جرائم حرب، غير أنّ لديهم للأسف دورا ً يلعبونه في تشكيل مستقبل سوريا. وعلى أية حال، ينبغي عدم الشروع بمفاوضات مع بوتين للوصول إلى هدنة جديدة قبل أن نقوم بمثل هذه الحملة العسكريّة، ويجب أن تكون أية مفاوضات مستقبليّة مشروطة بوقف جميع الأعمال العدائيّة من قبل بوتين والأسد أوّلاً.

إنّ ترك سوريا لنزوات بوتين والأسد والسّماح بذبح شعبها بدون رحمة هو خيانة لقيمنا الأخلاقيّة العزيزة. علينا أن ننهض لوقف الشرّ الذي يديمه بوتين والأسد وخامئني، أو التخلي عن مسؤوليتنا الأخلاقيّة وعن مصداقيتنا تجاه أصدقائنا وحلفائنا.

إنّ تركة الرئيس أوباما على المحكّ. عليه إمّا النهوض لمواجهة التحديّات باتخاذ إجراءات وتدابير عسكرية شجاعة وحاسمة منقذا ً بذلك أرواح أعداد لا تحصى من السوريين، وفي نفس الوقت تمهيد الطريق لخلفه لنهج استراتيجيّة جديدة لإنهاء الحرب الأهليّة من موقف القوّة، أو الإستمرار بدبلوماسيته العبثيّة ومشاهدة التفكّك المنهجي لدولة بأكملها وذبح شعبها بلامبالاة وعدم اكتراث، وبذلك ترك إرثاً مشوّها ً سيلاحقه لبقيّة حياته وما بعد ذلك، وإلحاق ضرر ٍ شديد بمكانة أميركا الدوليّة وتقويض دورها الدّولي الهامّ والحرج في السعي وراء السّلام والإستقرار.

أريد أن اتوهم بأن أوباما لن يسمح لأميركا أن تهبط إلى هذا الحدّ في وقت ٍ يستطيع فيه أمثال ترامب الصعود.

 

د. ألون بن مئير

أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية

بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط

بمعهد السياسة الدولية