والآن، وقد دخل بلدنا العام 61 بعد الاستقلال: من لهم المصلحة في اغتيال تعليمنا العمومي؟

سؤال إلى كل مكونات الدولة، وعلى رأسها الأحزاب التي قادت الوزارات الوصية على التربية والتعليم، والتعليم العالي..

الأحزاب أشرفت بنفسها على تدجين وتصفية التعليم العمومي.. وهي المسؤولة الأولى، الفاعلة المنفذة.. ومن الواجب محاسبتها هي وشركاؤها..

وفي السابق، لم يكن التعليم بهذا الشكل.. ففي مطلع الاستقلال، كان الحماس الوطني منعشا، من أجل تعليم حقيقي.. وكان بلدنا في حاجة ماسة إلى كفاءات لقيادة البلد..

وفي السنوات الأولى للاستقلال، كان التعليم العمومي يعلم المغاربة..

ومن ذلك التعليم تخرجت أطر كبرى، والتحق متعلمون بوظائف متوسطة، وتقنيات صغرى..

وتم الاستغناء عن الأساتذة الفرنسيين والمصريين والسوريين وغيرهم، وانطلق استبدال المنهجيات الدراسية بكتب أخرى..

وظهرت تجارة الكتب المدرسية ورشاوى من يريد أن يشتغل معلما، حتى بدون تكوين.. لا حاجة لشهادة.. أوراق بنكية تكفي!

وما زالت الأوراق البنكية تفعل فعلها السحري في فتح كل الأبواب، وشق كل الطرق..

وتم إنشاء مدرسة لتكوين المعلمين.. ومع ذلك، بقي التعيين مرتبطا بحيثيات على رأسها الرشوة.. فمن شاء أن يعينوه في مكان كذا، فعليه "بدهن السير" أو "القهوة"، أي ركام من الأوراق البنكية إلى مسؤولين كبار في الوزارة الوصية..

ولم يعد سرا أن المناصب تباع جهرا، وأنتجت سماسرة للوزارة "المحترمة" في كل أرجاء البلد..

وزارة التعليم، ومعها وزارات أخرى، جعلت من الرشوة أكبر مورد لبيع حقوق الوطن والمواطن..

والأحزاب دائما هي السمسار، وهي البائع والمشتري..

وتحولت وزارة التعليم إلى مركز رئيسي للبيع والشراء في المناصب التعليمية.. والتلاعب ما زال قائما حتى الآن، ونحن في العام 61 بعد استقلال المغرب..

ما زالت الوزارات المسؤولة عن التعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي، تصدر قرارات تنقض أخرى، للعبث بالتعليم العمومي في بلادنا..

وعندما تسأل وزيرا عن مصير قرار وزير سابق، يقول لك: "اتبعوا الوزير السابق.. أنا لست مسؤولا عن قرار وزير سابق"..

وهكذا تموت المتابعة.. ويموت التتبع..

ولو كانت الدولة عندنا دولة مؤسسات، ما تمكن أي وزير من التملص..

وما زلنا بعيدين عن حق التتبع، فنحن لسنا دولة مؤسسات، بل دولة أشخاص، حيث أن كل مسؤول لا يواصل عمله من قرارات سابقه، بل يبدأ لدى استوزاره من الصفر..

كل وزير جديد يبدأ من الصفر..

ويبقى التعليم راكدا، لا يتقدم، بل يتراجع..

وبموازاة مع هذا العبث، يتواصل تشجيع التعليم الخصوصي، وغض الطرف عن خروقاته المتواصلة منها كون المنهجيات تختلف من مؤسسة إلى أخرى، والشهادات المسلمة للتلاميذ والطلبة فيها ما فيها..

والحكومة تسحب البساط من تحت أقدام التعليم العمومي لتمكين التعليم الخصوصي من جيوب المواطنين..

وأخذ التعليم ينتقل من الحقوق إلى الجيوب.. وصرنا نسمع بعض المسؤولين الكبار يرددون أن على كل من يريد تعليم بناته وأبنائه أن يدخل يده في جيبه..

وأصبح التعليم مرتبطا بالقدرة المالية.. وبالمال، في منطق كثير من الخواص، يمكن شراء النجاح من قسم لآخر، وحتى شهادة التخرج..

والجهات المسؤولة تتملص من مسؤولية المراقبة..

- والفقير لم يعد له "حق" في أن يتعلم..

وفي نفس الوقت، تردد الوزارات المرتبطة بالتعليم العمومي أن جل الأطفال المغاربة يتعلمون وأن المدارس موجودة بما فيه الكفاية.. وقال وزير آخر: إن بلادنا قد تقلصت فيها الأمية بشكل كبير جدا..

قال هذا، حتى وهو مجرد كذب وافتراء..

وبالكذب، صارت حكومات تمارس حل المشاكل.. تكذب وكأن الكذب هو الحل..

وفي كل المجالات، لم تتردد حكوماتنا المتعاقبة، في تسويق الكذب على شعب طيب يصدق ما يقال له..

والآن، دخل البلد في وقت قد لا تجد فيه الأحزاب والنقابات والحكومات من يصدقها..

وما زالت للحكومات المتعاقبة أبواق وزارية متنوعة، في التعليم والصحة وغيرهما..

وذات عام، قال وزير الصحة: "بشرى للمغاربة.. بداية من اليوم، يحظى كل مغربي بتغطية صحية!"..

ها هم مسؤولون كبار يسوقون الكذب.. والكذب يتصيد مزيدا من الضحايا..

وحكوماتنا ليست لها سياسة تسييرية تدبيرية سليمة نزيهة، وطنية حقيقية، بل إشهارات تلو إشهارات.. وعمليات غسل دماغ..

وفي الأحياء المهمشة، يتغيب معلم كما شاء، متى شاء، ويضر بزميله المعلم الجاد، وبحق التلميذ والأسرة والمجتمع.. والغش قد انتشر في التعليم، عن سبق إصرار.. والمدارس لا تفتح أبوابها للتلاميذ إلا بضع ساعات في اليوم.. والوزارات تتحكم في الدواليب.. وقد تعاقب المسؤول النزيه، وتبقي على المسؤول الكاذب المرتشي المنافق..

وهكذا تحولت سياسة التعليم في بلادنا إلى سياسة للتجهيل..

وأصبحت مدارسنا الصغرى والعليا تقدم للأطفال والطلاب ما يدفع بهم إلى الشارع..

والحكومات المتعاقبة تشرف بنفسها على نشر اللاعقل، بموازاة مع مؤسسات تنشر ثقافة "البخاري ومسلم وابن تيمية..."، وتنسب إلى الله ما لم يقل، وإلى رسول الله ما لم يقل..

يكذبون على الله ورسوله، ويريدون الناس أن يصدقوا حتى ما لا يقبله عقل..

إن التعليم العمومي أصبح مسؤولا رئيسيا عن الجهل المركب المستشري في بلدنا، والذي أنتج وما زال "طوابير التطرف"..

وأصبح عندنا متطرفون واضحون.. يجهرون بما تعلموه في مؤسساتنا التعليمية.. وآخرون لا يجهرون، لكنهم يشكلون خلايا نائمة لثقافة التطرف..

التطرف لم يأت إلينا من خيال..

التطرف صنعته الدولة بعد اغتيالها للفلسفة وكل ما هو تساؤل وعقل..

الدولة مسؤولة.. وهذه الدولة هي أنت وأنا ونحن جميعا، وكل الأحزاب، والحكومات، والسياسات الاجتماعية التي تبني المساجد لكي يذرف فيها المؤمنون دموعا حتى على ذنوب لم يقترفوها..

سياسة الحكومات المتعاقبة راهنت وتراهن على تحميل المجتمع مسؤولية كل السلبيات الحاصلة في البلد..

المجتمع وحده مسؤول عن حوادث السير.. ومسؤول عن الأمراض.. وعن اللاأخلاق..

وفي هذا الادعاء قليل من صحيح، وكثير من الكذب..

السياسات الحكومية تتحدث عن الأمراض ولا تتحدث عن الأسباب..

لا تتحدث عن الطرق المحفرة، وعن المستشفيات التي ما زالت وكرا للفساد..

الناس دائما هم المسؤولون.. وبالفعل، وإلى حد ما هم مسؤولون.. ولكن، ماذا لو كانت السياسات الحكومية فعلا في خدمة المواطن؟ وتخضع للمراقبة الحقيقية؟

وفي نفس السياق، يقال إن الناس أيضا مسؤولون عن نتائج الانتخابات.. وفعلا هم مسؤولون إلى حد ما، ولكن أليست عملية "التجهيل والتفقير" مسؤولة عن تمكين فئة متطرفة من إحكام قبضتها على أعناق الناخبين؟ أليست سياسات الدولة مسؤولة عن إيصال تجار الدين إلى دواليب الحكومة؟

وإلى هذا، ألم تشارك تقاطعات أجنبية في تركيز جذور التطرف بتعليمنا؟

وسؤال أخير: من لهم المصلحة في اغتيال التعليم العمومي بالمغرب؟


أحمد إفزارن