تظلّ الاولوية في اليمن لوقف الحروب الداخلية والصراعات التي لا طائل منها والدخول في عملية سياسية تفضي الى صيغة جديدة للبلد. تقوم هذه الصيغة اوّل ما تقوم على اللامركزية الموسّعة. لعلّ اوّل ما يفترض ان يعترف به المتعاطون في الازمة اليمنية، التي بات يمكن تسميتها المأساة اليمنية، ان العودة الى صيغة بلد يُحكم من صنعاء انتهت الى غير رجعة.

كان الحوثيون (انصار الله) آخر من حاول ذلك بعد استيلائهم على العاصمة قبل عامين وشهرين وفشلوا في تحقيق حلمهم فشلا ذريعا لاسباب عدة. في مقدّم هذه الأسباب عدم امتلاكهم أي مشروع اقتصادي او سياسي على علاقة من بعيد او قريب بالواقع اليمني، إضافة بالطبع الى ان اليمن تغيّر جذريا. لم تكن لديهم أي علاقة سوى بإعادة البلد ستين عاما الى خلف، أي الى عهد الامامة. لم يخف زعيم "انصار الله" عبدالملك الحوثي انّه يعتبر ان عهدا جديدا بدأ. قال صراحة ان ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر 2014 حلت مكان ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962.

تتطور الاحداث بشكل يومي في اليمن نحو الأسوأ. لا يتحمّل الحوثيون وحدهم مسؤولية ذلك. كلّ القوى اليمنية، التي لم تستطع الارتقاء الى مستوى الاحداث، شريكة في المأساة. من هنا، يمكن القول انّه اذا كان من ضرورة لحكومة وحدة وطنية جديدة في اليمن، فهذه الضرورة مرتبطة، قبل ايّ شيء آخر، بوقف القتال والانصراف الى انقاذ ما يمكن إنقاذه في بلد يعاني اهله من مجاعة حقيقية ومن فقر مدقع وازمات متشابكة وتعقيدات لا تتسع مجلدات لها. من يحتاج الى دلائل على حجم المأساة اليمنية يستطيع العودة الى بعض الصور الملتقطة في الحديدة ومحيطها لاطفال جعلهم الجوع اقرب الى هياكل عظمية.

ادّت "عاصفة الحزم" الغرض المطلوب بضربها المشروع الايراني في اليمن. هذا المشروع الذي أراد الاستفادة الى ابعد حدود من وضع "انصار الله" يدهم على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول ـ سبتمبر 2014. ما لا يمكن تجاهله ان الحوثيين انطلقوا، بعد سيطرتهم على العاصمة، في كلّ الاتجاهات وصولا الى عدن بمساعدة من علي عبدالله صالح.

جاء من يخرجهم من عدن. جعلهم ذلك ينكفئون شمالا ويقدمون على اعمال تكشف مدى افلاسهم سياسيا وعسكريا من نوع اطلاق صاروخ في اتجاه مكّة المكرّمة. لم تكن لديهم فكرة عن معنى مثل هذا التطور ومدى خطورته على كلّ صعيد، بما في ذلك الاستخفاف بمشاعر ملايين المسلمين في العالم. هناك حال من انتفاء النضج السياسي لدى الحوثيين جعلتهم عاجزين عن فهم خطورة المشروع التوسّعي الايراني على اليمن نفسه قبل دول الخليج العربي، على رأسها المملكة العربية السعودية.

بعد كلّ ما طرأ من تطورات اخيرا، لم يعد مفرّ من الاعتراف بانّ لا تغييرات، ذات مغزى، على الصعيد العسكري منذ اشهر عدّة وذلك على الرغم من اخراج الحوثيين من الجنوب ومن تحقيق تقدّم لقوات "الشرعية" في مناطق محيطة بصنعاء وفي مأرب. تبيّن بكلّ بساطة ان ليس في الإمكان احداث ايّ تغيير جذري ان في ما يخص صنعاء او ما يخص تعز، التي لا يزال قسم كبير منها تحت سيطرة قوات تابعة للرئيس السابق علي عبدالله صالح والحوثيين. ما ينطبق على صنعاء وتعز، ينطبق أيضا على الحديدة والمناطق القريبة منها.

جاءت المبادرة التي طرحها وزير الخارجية الاميركي جون كيري في اثناء وجوده في مسقط حيث التقى وفدا حوثيا متلازمة مع الخطوط العريضة لطرح إسماعيل ولد الشيخ احمد مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الى اليمن. في الإمكان القول ان النقطة الأساسية في هذه المبادرة تقضي باشراك الحوثيين في الحكومة الجديدة في مقابل اخلاء المدن التي يسيطرون عليها من السلاح. من يضمن الحوثيين؟ من الجهة التي ستشرف على اخلاء المدن، أي صنعاء وتعز والحديدة، من السلاح؟ من هي الجهة المحايدة التي يمكن ان تتسلّم السلاح؟

بغض النظر عن قبول الحوثيين طرح كيري، يبقى ان الحاجة اكثر من أي وقت الى آلية لتنفيذ ما ورد فيها. تكمن اهمّية المبادرة الخليجية التي طرحت في 2011 في انّه كانت لها آلية خاصة بها بدءا بتخلي علي عبدالله صالح عن السلطة لنائبه عبد ربّه منصور هادي الذي سيكون رئيسا انتقاليا لمدة سنتين، على ان يلي ذلك انتخابات رئاسية تجري استنادا الى دستور جديد.

ثمّة أسئلة اخرى كثيرة تطرحها المبادرة الاميركية التي لا تؤكد سوى ان لا حاجة بعد الآن الى عبد ربّه منصور هادي الذي فشل في احداث أي تغيير على الأرض. ليس ما يشير الى ان الرئيس الانتقالي قادر على ان يكون له دور على الصعيد اليمني باستثناء انّه جزء من تركيبة لم تستطع البناء على الفرص التي وفّرتها "عاصفة الحزم". على العكس من ذلك، لم يكن من هدف لهذه التركيبة سوى استمرار الوضع على حاله، مع كلّ ما يتضمنه ذلك من مخاطر تترتب على المأساة اليمنية، خصوصا لجهة توسّع "القاعدة" وترسيخ وجودها في محافظات عدّة، خصوصا في وسط البلد وجنوبها.

من الواضح انّ هناك حاجة الى آلية لمبادرة كيري التي تتحدّث عن حكومة وحدة وطنية ونائب للرئيس يتمتع بصلاحيات كانت لدى الرئيس الانتقالي. من يشكل الحكومة؟ من يختار نائب الرئيس؟ من يؤمن صنعاء التي يفترض ان تكون المكان الذي تمارس منه حكومة الوحدة الوطنية صلاحياتها؟

في الإمكان الذهاب بعيدا في طرح الأسئلة في وقت يظهر ان "انصار الله" في حال تجاذب مع علي عبدالله صالح وحزبه (المؤتمر الشعبي العام)، خصوصا بعدما تبيّن ان نتيجة الضربة الجوية التي استهدفت في تشرين الاوّل ـ أكتوبر الماضي القاعة التي كان يتقبل فيها آل رويشان العزاء في صنعاء، جاءت لمصلحتهم. ذهب ضحية تلك الغارة عدد كبير من الضباط ولم يقتل أي قيادي حوثي. كان بين هؤلاء ضباط موالون للرئيس السابق وآخرون وقفوا على الحياد منذ بدأت احداث اليمن في 2011. هؤلاء معروفون بانّهم ضباط محترفون يستطيعون لعب دور محدّد في أي تسوية يمكن التوصل اليها في يوم من الايّام استنادا الى الخطوط العريضة الواردة في مبادرة كيري التي لا تزال تحتاج الى آلية واضحة.

في غياب الآلية التنفيذية، تبقى مبادرة وزير الخارجية الاميركي مجرد أفكار بعضها غامض. لكنّها أفكار كشفت امرين. الاول ان هناك مكانا لـ"انصار الله" في المعادلة السياسية اليمنية، في حال تخلوا عن اوهامهم واستطاعوا اخذ حجمهم الحقيقي واعترفوا بانّهم ليسوا قادرين على إدارة دائرة حكومية صغيرة... فكيف اذا كان طموحهم استعادة تجربة علي عبدالله صالح التي لم يعد في الإمكان تكرارها لاسباب كثيرة الى درجة يصعب احصاءها.

امّا الامر الثاني الذي كشفته مبادرة كيري فهو انّ على عبد ربّه منصور هادي الوقوف جانبا. لم يعد جزءا من أي حلّ بمقدار ما انّه يلعب دورا معرقلا في ايّ تسوية... هذا اذا جاء يوم ارتفع فيه القياديون اليمنيون الى مستوى المسؤولية، مسؤولية الاعتراف بانّ عمق الكارثة اليمنية اكثر بكثير مما يتصورون وان أطفال اليمن يستأهلون رجالا يتمتعون بحد ادنى من القيم الاخلاقية افضل منهم بكثير.

 

خيرالله خيرالله