بقلم : امحمد لقماني

في مقالة سابقة بعنوان ” دفاعا عن الدولة “، حضرتْ إشكالية مطروحة بحدة في الخطاب السياسي الراهن، وهي وجود حالة من التماهي النظري والفكري في تناول مسألة الدولة والسلطة والمجال السياسي، وما ينتج في أعقاب ذلك من ممارسات سياسية خاطئة، قد تصل أحيانا حد شيطنة الدولة والمطالبة بإسقاطها، أو في أحسن الأحوال تطويعها خدمة لمشروعٍ أو لفكرةٍ طوباويةٍ، هي ممتنعة التحقق في جميع الأحوال، مع أنها ( أي الدولة ) هي دولة الجميع وفوق الجميع. ولهذا الحذر النظري ما يبرره، ليس أقله استحالة الادعاء بممارسة السياسة و تناول مسألة السلطة، خارج مجال الدولة، لسبب بسيط هو أن تدبير شؤون الدولة ومؤسساتها يقع في قلب أهداف السياسة و من صميم وظائفها.

فالأحزاب السياسية تتنافس انتخابيا من أجل هذا الهدف بالذات، أي في مسعاها للبحث عن أفضل السبل لتنزيل تصوراتها و برامجها حول حسن تدبير مؤسسات الدولة بما لا يتعارض مع الثوابث الجامعة والمشروع المجتمعي المشترك بين كافة القوى المجتمعية بالبلاد.

فممارسة السياسة، إذن، تقع في الإطار المؤسساتي للدولة وداخل مجالها وليس خارجه كما قد تذهب إلى ذلك بعض الاتجاهات الطوباوية و العدمية والفوضوية. غير أن تناول مسألة الدولة من هذه الزاوية ليس كافيا بقدر ما هو منهجيٌ بالأساس فرضه مقام المقال ليس إلاَّ، ولم يكن ليحيط بجميع مستويات التحليل السوسيولوجي والبنيوي، نظير ذاك المرتبط بقاعدتها الاجتماعية/الانتاجية/المعرفية، بحسبانها بيئتها الحاضنة التي نمت في رحمها و تغدت من معينها. فالدولة الحديثة لا تقوم لها قائمة العقلنة والنجاعة والتوازن، إلا بانتظامٍ في العلاقة وتداخلٍ في الوظيفة بين السياسية والمعرفة والإنتاج.

وبقدر ما نطرح مسألة الدولة بهذا الشكل الشمولي، بقدر ما تتعدد أمامنا فرص ملامسة الإشكالات المرتبطة بوجودها والإكراهات التي تعيق استمرارها وفعاليتها داخل المجتمع.

و إذا عددنا مجمل المخاطر التي تهدد كيان الدولة في وجودها ووظائفها الأصلية، جاز لنا، بالنتيجة، أن نقيم القياس على ذلك في تعداد المخاطر عينها المهددة للسياسة، ما دامت بيئتها الحاضنة معرضة للتدمير.

وقد أصاب عابد الجابري في توصيفه، مثلاً، لمخاطر العولمة بالنسبة للدولة، معتبراً أنه : « إذا كانت السياسة تدبيرا لشؤون الدولة، فإن شؤون الدولة تبتلعها العولمة…وإذا تقلصت مهام الدولة انحسر مجال السياسة… فجميع هذه الشؤون التي تنتزعها العولمة من الدولة الوطنية تنتزعها أيضا من السياسة، فتتركها بدون موضوع ».

واضحٌ، إذن، أن تقلص مجال الدولة – وهو مجال السياسة كما أسلفنا- يُحوِّل عملية التنافس الانتخابي والتعددية الحزبية، إلى ديمقراطية سياسية بدون رهانات مجتمعية. وبالقياس إلى مخاطر العولمة ونتائجها في هذا الباب، يمكن ترتيب نفس الآثار المدمرة للدولة و للمجال السياسي الوطني بالنسبة للمخاطر الأمنية المرتبطة بالإرهاب، أو في حال وجود اعتداء خارجي.

غير أنه ثمة قوة مدمرة ومهددة لاستقرار الدولة قد تكون أشد وطأةً وخراباً من غيرها، وهو خطر فقدان الدولة لقاعدتها الاجتماعية التي تمدّها بأسباب الحيوية والتجدد، وهي هنا الطبقة الوسطى، لأن الجزء الأعظم من التكوين الاجتماعي لهذه الطبقة ينتمي إلى الدولة أو نما في أحضانها وتحت رعايتها، بما هي الفضاء الأساسي لذلك التكوين، وبما هي – في الوقت عينه – أداة الإنتاج الرئيسي له.

لا يكفي، إذن، الترافع من أجل الدولة فقط بالنظر إليها من زاوية المؤسسات والأفكار والبرامج والتصورات السياسة، دون الانتباه إلى بنيتها الطبقية الأساس وبيئتها الحاضنة التي تنمو فيها و تتغذى منها، والتي تشهد، اليوم، على حالٍ من الاندحار والهشاشة، نتيجة سياسات عمومية مدمّرة، قادت إلى الإضرار بمصالح الطبقة الوسطى، وإضعاف مركزها الاعتباري في المراتبية الاجتماعية.

فالاختلالات التي رافقت الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، كما أظهرت مختلف الدراسات التشخيصية لوضعية البلاد ( كتقرير الخمسينية و تقارير المندوبية السامية للتخطيط والمجلس الاقتصادي والاجتماعي…)، والمتجلية أساسا في سوء تدبير الموارد وإهدار الطاقات والقدرات الانتاجية للبلاد، فضلا عن سياسة الاستدانة الخارجية المفرطة، وتفكيك القطاع العـام وفي القلب منه الوظيفة العمومية، وضرب التعليم ومجانيته، و نقص في تمويل الاستثمار العمومي، وتهميش المقاولات الصغرى والمتوسطة، ( كل هذه الاختلالات ) ما انفكت تلقي بتبعاتها السلبية داخل الحقل الاجتماعي، لعل أبرزها توسيع هامش الهوامش، و سحق الفئات المسحوقة، وترييف المدن ، ونشوء فئات خدماتية طفيلية هجينة وغير منتجة.

هذه التجليات المقلقة تؤشر على أزمة الدولة التنموية / الاجتماعية، و تُندر بتعميق الهوة في علاقتها بالمجتمع ومن ثمة خطر انهيار عنصر الثقة في مؤسساتها، وهي الفجوة التي تشكل مدخلا للتشكيك المنهجي في الحاجة إلى الدولة الوطنية و أدوارها الحمائية ووظائفها الاجتماعية والتضامنية.

فالدولة، ورغم ما طال أدوارها من تغيرات جراء أحكام العولمة وزحف قوانين الاقتصاد الحرّ، فإنها لا زالت هي مفتاح التنمية وعمودها الفقري، وضامن التماسك الاجتماعي.

ولذلك، بمقدار ما سيكون عليها أن تنهض بأدوار رئيسية في مضمار عملية التنمية، بمقدار ما سيكون عليها تنمية الطبقة الوسطى وتوسيع حيز انتشارها بكل فئاتها ، كمياً و وظيفياً، بالنظر لما تضخّه من عوامل الكفاءة العلمية والثقافية، والحيوية التي تلعبها في تحريك عجلة الاقتصاد وتنمية الطلب العام.

فحضورها الوازن في الدولة والمجتمع، إنما هو تعبيرٌ عن تحقيق التوازنِ و رسوخِ الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

لذلك، لا مناص من استحضار علاقة التلازم بين دور الدولة في التنمية وهاجس تقوية الطبقة الوسطى لحظة صياغة السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولا حاجة لنا بالتذكير بأن الوعي بهذه المسألة قد حضر في الدستور المغربي من خلال تنصيصه على دور الدولة الحمائي لمجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ليظل المجتمع المغربي في حاجة إلى دولته، والدولة في حاجة إلى قاعدتها الاجتماعية، و مفتاح التوازن في انتظام هذه العلاقة هو إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى بكل فئاتها. وهنا بالضبط تظهر الحاجة إلى الارتقاء بوعي النخبة السياسية المغربية، من الفكر اليومي إلى التفكير الاستراتيجي.