التخمة وسوء الهضم، من أكثر أمراض العصر انتشارا، والتخمة، كما تصيب المعدة، تصيب العقل وتصيب الحواس الإدراكية المختلفة، ولا شك أن الصنف الأخير من التخمة، لا يقل خطورة عن أصنافها الأخرى، لها آثارها السلبية على الصحة النفسية وعلى سلوك الإنسان الثقافي والفكري.


وكما يتعرض الإنسان لتخمة المعدة، يتعرض لتخمة الفكر، فالكثير من المثقفين والمتعلمين يقرؤون كما يأكلون، بلا نظام وبلا شهية، فالكثير منهم يجيد إضافة إلى لغته الأصلية / الأساسية، لغة أو لغتين، وبعضهم يفكر بكل اللغات واللهجات التي يجيدها، ومنهم من تجد على مكتبه منشورات الشرق والغرب الخفيفة والدسمة، من كتب طنطاوي جوهري وموسى صبري وطه حسين والضمياضي، والنفزاوي، إلى كتب لينين، وديجول، وسارتر، وانشتاين، واندري جيد، واندري مارلو...والسيد قطب وعبد السلام ياسين والمنفلوطي وهنري كسنجر...وغيرهم.

 

ومثل هذه التخمة، تكاد تصبح في عصرنا قاسما مشتركا بين عدد كبير من المثقفين والمتعلمين، ففي عقولهم وصدورهم، على مكاتبهم تلتقي النقائض بحرية، وتتفق الأضداد بحرية، فنزار قباني، وسلامة موسى على اتفاق تام مع سيد قطب ورشيد رضا، وجمال الغيطاني على وفاق مع النفزاوي والإمام الغزالي، ومحمد برادة ومحمد شكري ومحمد زفزاف في عناق مع ماوتسي تونج ولينين والحلاج وابن حزم وابن نواس، وجميعهم في صحبة شكسبير وموليير،ويونسكو واحمد الطيب العلج...

كيف يمكن للهضم أن يحدث...؟


لا أحد يدري هل العقل العربي يهضم كل ذلك بسهولة، وهل في استطاعته أن يتقبل الصوفية، والشيوعية، والظاهرية، والماسونية، والإلحادية، والغيبية والشيوعية والليبرالية في زمن واحد...وعلى مائدة واحدة...؟

 

في الواقع، إنها حالة لا يفرضها المثقف على نفسه، بقدر ما تفرضها عليه ظروف الثقافة العربية، التي ما يزال الكتاب فيها يعاني من الرقابة، والخوف والتهميش والفقر والاضطهاد، والتي تجعل الجوع إلى الكتاب واقعا مؤكدا...حتى لو كان هذا الكتاب عسير الهضم...وسيئ المذاق.