أشرف موسم الذكريات الطيبة لهذا العام على نهايته، وأخذت قوافل الخير تشد بُجر الحقائب على نجب الركائب، وبدأت العيون تتجه نحو المشرق، لإلقاء نظرة الوداع على هلال ربيع القلوب، الذي أضاء لياليَ هذا الموسم في صمت مهيب، لم تقطعه أَنَّةُ شَجِيٍّ ولا رَنَّة خَلِي، وهي تتمنى أن ينعكس المشهد وتستدير الآفاق فيعود الهلال إلى أفق مطلعه، أو يَطلُع بدرا من ثنيات الوداع، أو أن يمتثل أمر القائل: 
  
وكن كالشمس تطلع كل يومٍ 
ولا تك في "زيارتنا" هلالا 
  
هكذا تنتهي العهود الطيبة كما بدأت، وتنطوي مسافة ما بين البداية والنهاية وكأن شيئا لم يكن؛ 
  
يا ليلة جمعتنا بعد فرقتنا 
فبتُّ من صبحها لمّا بدا فرِقا 
  
لما خلوتُ بآمالى بها قصُرت 
وكاد يسبق فيها فجرها الغسقا 
  
مرت علينا أيام هذا الشهر الكريم كما مر عيش أبي الطيب المتنبي وأيام وصله: 
  
ذكرت به وصلا كأن لم أفز به 
وعيشا كأني كنت أقطعه وثبا 
  
وكما مرت على البهاء السنجاري أيامه بين رامة وحاجر: 
  
لله أيامي على رامة 
وطيب أوقاتي على حاجر 
  
تكاد للسرعة في مَرها 
أولها يعثر بالآخر 
  
أيام -كأيام الثعالبي- حسنت فكأنها أعراس، وقصرت فكأنها أنفاس، ولم تسعْ أوقاتُها إلا كلمتي التسليم والوداع: 
  
فكلَّمتُها ثنتينِ كالثلج منهما 
وأخرى على لوح أحر من الجمر 
  
يتذكر المؤمن الكريم في هذ الشهر العظيم لحظات تاريخية دبَّ نسيم أسحارها في عِلل الأيام، وصدَّع فجرها الساطع حجب الظلام، وتنفس صبحها بروح الحياة في القلوب والأجسام؛ 
  
يا ليلة طلعت بأسعد طالع 
تاهت على ضوء النهار السّاطع 
  
بمحاسن مقرونة بمحاسن 
وبدائع موصولة ببدائع 
  
فتتنسمُ به أريحيات الكرم، وتسمو به عوالي الهمم إلى التعلق بتلك الأهداب العالية، والتخلق بمحاسن الآداب الشرعية الراقية والترفع عن سفساف المنكرات والمخالفات. 
  
يقف المسلم الصادق مع ربه مُستهِلا مستمتعا بغرة هذا الشهر  مستمعا بقلبه ومسامعه إلى صدى السنين وهو يحكي وقائع استقبال الكون لذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض ولن تشهد مثله. ويرسل طرفه في مسارح التاريخ، فكأنه يرى بحيرة طبرية وهي ضاحية على ثمادها ونار فارس وهي تخبو وتختبئ تحت رمادها، وإذ تنوَّرت قصورُ بصرى من أرض الشام نورا يمتد من شعاب مكة ".... أدنى دارها نظر عال" ويرى رجوم الشهب وهي تلاحق مردة الشياطين في آفاق الدنيا، ويرمق مشهد انتظام عقد الجدي والمشتري مع برج العقرب في كبد السماء، وكأنه يصغي إلى الموبذان وهو يقص على كسرى في تاجه رؤياه بحادثة تحدث من جهة العرب،  وإذ يعبر سطيح الكاهن تلك الرؤيا لرسل كسرى،  وكأنه شاهدٌ إذ فتحت أبواب السماء، واستبشرت الملائكة وتطاولت الجبال وارتفعت البحار ونكست الأصنام، وكأنه ينظر في أرض المدائن إلى إيوان كسرى وهو يرتجس من هول الموقف؛ 
سهم أصاب وراميه بذي سلم 
من بالعراق لقد أبعدت مرماك 
  
لتتجه عيون الكائنات بأسرها إلى بيوت بني كلاب بن مرة في بطحاء مكة، وتتابع الحدث الجديد بجميع مراحله، لقد وُلد لعبد الله بن عبد المطلب بن هاشم  من آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ولدٌ له شأن عظيم، توالت به بُشر الأنبياء، وتواترت عنه الأنباء، ورسمت أعلامه الكتب السماوية، أدركت الأم مخايله قبل الولادة وبعدها، وامتدت بعد ذلك على مدارج الحياة البشرية في بيوت نشأته، ثم ملأ نورها الدنيا فزَوت مشارق الأرض ومغاربها بسلطان العدل وبنور الحكمة.. 
  
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ 
  
حدث اهتزت له الأكوان وازدان به الملوان وطرب له الثقلان 
  
يا ليلةً نسي الزمانُ بها 
أحداثَهُ كُوني بلا فجر 
  
باح الظلامُ ببدرها ووشت 
فيها الصبا بمواقع القطر 
  
ثم انقضتْ والقلبُ يتبعها 
في حيثما سقطتْ من الدهر 
  
يتمنى المؤمن لو يعيش مع هذه الأيام خارج أقطار الكون وفوق إطار الزمن، ليجتلي مظاهر حسنها، ويكتنه مكنون أسرارها، ويستمع إلى حروف تلك الهمسات الكونية، بعيدا عن رنات العذال وترانيم العشاق، ويردد مع الذكريات قول العباس بن عبد المطلب: 
  
وأنت لما ولدت أشرقت الأر 
ض وضاءت بنورك الأفق 
  
ويروي لها قول ابن الخطيب: 
  
لمولدك اهتز الوجود فأشرقت 
قصور ببصرى ضاءت الهضب والوهدا 
  
ومن رعبه الأوثان خَرّت مهابة 
ومن هوله إيوان كسرى قد انهدا 
  
وغاض له الوادي وصبّح عزه 
بيوتاً لنار الفرس أعدمها الوقدا 
  
رعى الله منها ليلة أطلع الهدى 
على الأرض من آفاقها القمر السعدا 
  
وأقرض ملكاً قام فينا بحقها 
لقد أحرز الفخر الموثل والمجدا 
  
ويُسمعها قول البوصيري: 
  
يوم نالت بوضعه ابنة وهب 
من فخارٍ ما لم تنله النّساء 
  
وأتت قومها بأفضل ممّا 
حملت قبل مريم العذراء 
  
شمّتته الأملاك إذ وضعته 
وشفتنا بقولها الشّفاء 
  
رافعاً رأسه وفي ذلك الرّف 
ع إلى كلّ سؤددٍ إيماء 
  
رامقاً طرفه السّماء ومرمى 
عينِ من شأنه العلوّ العلاء 
  
ويتعلل بقول ابن أحمد دام: 
  
بل ليس يشفيك إلا أن ترى رجعت 
أيام نشأته أزمان أزمانا 
  
أو كنت قبل قدوم الفيل موقنةً 
نفسي بأمر رسول الله إيقانا 
  
بل أعرف الأب ثم الأم أنهما 
زوجان أشهد ذاك العقد إذ كانا 
  
وحين إذ نُفست نعم الفتاة به 
آتيه عند طلوع الشمس جذلانا 
  
أهوي إليه بلا ريث أقبله 
لثم العوان وحيدا فاق أقرانا 
  
شرب النزيف ببرد الماء من رصف 
جادت عليه روايا المزن تهتانا 
  
أرى به قرة العينين بل وأرى 
شخص السنا في يدي حسناء وسنانا 
  
وحين سماه فينا عبد مطلب 
محمدا فحمدنا منه ما كانا 
  
ولا أزال أراه طول مدته 
طورا فطورا وأحيانا فأحيانا 
  
ويتغنى بقول بدي بن سيدينا: 
  
تهنئة الربيع 
بمدحة الشفيع 
بالمنطق البديع 
أبغي بها مؤملي 
  
أهلا بشهر المولد 
شهر العلا والسؤدد 
شهر النبي أحمد 
شهر ربيع الأول 
  
قد منَّ ذو الإفضال 
بأفضل الرجال 
في أفضل الليالي 
بالبلد المفَضَّل 
  
أهلا بليل اثني عشر 
به ويومه الأغر 
وطيب ذلك السحر 
ونور أفقه الجلي 
  
أهلا بيوم اثنين 
مولد ثاني اثنين 
مبعث سر الكون 
مقدمه المبجل 
  
أكرم بشهر العجم 
إبريل شهر الكرم 
أكرم بأرض الحرم 
مولد خير مرسل 
  
ويُورد قول ابن حنبل: 
  
وبوضعه قد سُر ما بين الثرى 
والعرش ملكُ الواحد الجبار 
  
وبدت له آي بواهر آذنت 
لأموره بفخامة الأخطار 
  
منها دنوُّ النجم ليلة وضعه 
وبدوُّ أرض الشام للنظار 
  
وتصدُّع الإيوان من شرفاته 
وبكاء فارسَ من خمود النار 
  
وورود ساوة ماءَها وصدورُها 
بكآبة الإيراد والإصدار 
  
لله منفوس به قد نُفِّست 
كُرَب الزمان وسدفة الأغيار 
  
سعدت قوابله وحُضَّنه به 
كسعادة الإخوان والأظآر 
  
وبه أوانَ رضاعه وفطامه 
طلعت نجوم السعد في الأقطار 
  
وينشد قول ابن الشيخ سيديا: 
  
أهلا بصاحب هذا المولد النبوي 
مقابَل الطرف الأمي والأبوي 
  
أهلا بميلاد مولود به كملت 
بشرى البشائر للبادي وللقروي 
  
أهلا بميلاد من لم يحك مولده 
من الظروف مكاني ولا ملوي 
  
أكرم بها ليلة غراء مسفرة 
عن غُرة في محيا الضئضئ القُصَوي 
  
أكرم بها ليلة غراء ضاحية 
فيها يتيمة عقد اللؤلؤ اللؤوي 
  
أكرم بها ليلة غراء مُطلعة 
شمس الضحى بسماء المطلع النبوي 
  
أكرم بها ليلة غراء مظهرة 
سر الوجود الذي فيه الوجود حُوي 
  
أكرم بها ليلة غراء منتجة 
نتيجة العالم السفلي والعُلَوي 
  
ويشدو بقول ابن محمدي: 
  
يا مولد الهادي لشهرك نفحةٌ 
أرِجَ الزمان بنشرها المتضوّع 
  
أكرم بمولد ذي الختام بيومه 
وبشهره وبعامه والموضع 
  
حَلِى الزمان به كما حَلِىَ الرُّبَي 
بالروض إثر الساريات الهمّع 
  
حتى تمضي هذه الليالي دون شعور من الزمن على حين غفلة من أهله كعهد الصبا عند البحتري: 
  
فلا تذكرا عهد التصابي فإنه 
تقضى ولم يشعر به ذلك العصر 
  
وكيوم ابن أبي عيينة: 
  
كأنا من بشاشتنا ظللنا 
بيوم ليس من عمر الزمان 
  
أو كمجلس أبي صخر الهذلي: 
  
تمنيتُ من حبى علية أننا 
عَلَى رمثٍ فِي البحر ليس لنا وفر 
  
علي دائم لا يعبر الفلك موجه 
ومن دوننا الأهوال واللجج الخضر 
  
فنقضيَ هم النفس فِي غير رقبة 
ويغرق من نخشى نميمته البحر 
  
فيضع سدَنة العقائد مقامع البدع عن عواتقهم، ويستريح المحتفي طربا بهذا الشهر من تأليف الحجج. 
  
لِمَ تنكرين وقد هوِيت تبلُّدي 
وبراعة المشتاق أن يتبلدا 
  
يقف اليوم ملايين البشر في أنحاء المعمورة على أهبة الاستعداد -بلا عدة- لتوديع هذا الشهر المبارك الميمون كما يودعون الربيع، وسيفتقدونه افتقاد الديم، وتجتمع فنون الشوق وصنوف الوداع كما اجتمعت يوم النفر وبعد ليالي الجفر 
  
إنّي لأُكثِرُ من أهلِ الهَوَى عجباً 
أنَّى يُطيقونَ للتوديع مدَّ يَدِ 
  
لم لا يكونونَ مثلي يومَ بينهمُ 
يدٌ علَى القلب والأُخرى علَى الكبدِ 
  
يودع المؤمنون أيام هذا الموسم السعيد وهم ينتظرون من فرح الأوبات ما ينفي ترح الوداع 
  
أآلفة النّحيب كم افتراق 
أظلّ فكان داعية اجتماع 
  
وليست فرحة الأوبات إلّا 
لموقوف على ترح الوداع 
  
ويقولون للمنذرين بصولة الرقباء في مشهد التوديع قول ابن أضحى: 
  
قالوا: الوداع يهيج منك صبابة 
ويثير ما هو في الحشا مكتوم 
  
قلت: اسمحوا لي أن أفوز بنظرة 
ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم 
  
محمد ولد بتار