في هذا الشهر منذ ست سنوات سقط حسني مبارك، الدكتاتور الذي حكم مصر ما يقارب ثلاثة عقود. وظنت قوى التغيير وقتها -بإصلاحييّها وثورييّها- أن الطريق صار مُعَبّداً للحرية والكرامة والعدالة والرخاء الاقتصادي، واختلطت وقتها مشاعر التفاؤل ونشوة الانتصار مع حسابات المستقبل وسوء تقدير حجم التحديات. فما المتغيرات الحادثة بعد ست سنوات من إسقاط مبارك؟ وما هي المسارات المحتملة في ظل اختلال موازين القوى لغير صالح الثورة؟

تغيرات النظام والثورة
من الخطأ اعتبار النظام الحاكم في مصر مجرد امتداد لنظام حسني مبارك رغم أوجه التشابه المتعددة بينهما. فالنظام الحالي ليس فقط أشد بطشاً وأكثر شراسةً تجاه معارضيه. فهو نظام سياسي/عسكري لا يقبل التأييد الفاتر، أو تغير المواقف، أو الحياد. وهذا الموقف ينعكس على سياسته الخارجية والداخلية التي تدار بعقلية "إما معنا بقوة أو ضدنا".

وفيما يتعلق بالسياسات، هناك اعتقادٌ قويٌ سائد بين رموز النظام وبعض قياداته بأنَّ مبارك والمشير حسين طنطاوي كانا متساهليْن مع المعارضة، ولذلك فإن الدرسَ المستفاد من عهديْ مبارك وطنطاوي هو اتخاذُ إجراءاتٍ أكثرَ صرامة تجاه المعارضين في الداخل. وإذا استخدم النظام -أو اضطر لاستخدام- تكتيكات مشابهة لنظاميْ معمر القذافي في ليبيا أو بشار الأسد في سوريا، فينبغي أن تدار السياسة الخارجية بطريقة تمنع أية مساءلة دولية أو حتى انتقاد إقليمي.

أما عن الطبيعة البنيوية للنظام فهي تختلف كذلك عن نظام مبارك؛ فنظام مبارك كان يعتمد على "شرعية" بقائه في السلطة ثلاثة عقود، وعلى جهاز للحشد السياسي يتمثل في "الحزب الوطني"، وأجهزة أمنية وعسكرية متنافسة في قمع المعارضة، أبرزها جهاز "مباحث أمن الدولة".

وكانت مؤسسة الرئاسة عملياً أقوى فاعل سياسي داخل النظام، وهو استمرار للنمط الذي أرساه جمال عبد الناصر، وملخصه أن العسكري الذي يقبع في مؤسسة الرئاسة أقوى من العسكري الذي يقود الجيش.

 

فمثلاً حين اصطدم عبد الناصر مع عبد الحكيم عامر نُحِرَ الأخير أو انتحر، وحين حدث ذلك الصدام بين أنور الساداتوالفريق محمد فوزي والقيادات العسكرية والأمنية الأخرى انتهى الأمر بهم في السجن كـ"مراكز قوى" فاسدة. وحتى عندما ظهرت شائعات حول الطموح السياسي المحتمل للمشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، أقاله مبارك.

أما منذ فبراير/شباط ٢٠١١ فقد تغير هذا النمط؛ إذ أصبح العسكري الذي يترأس القيادة العليا للجيش (المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو المجلس العسكري) أقوى من الذي يسيطر على مؤسسة الرئاسة. فعندما اصطدمت المصالح، خلعت قيادة الجيش حسني مبارك في فبراير/شباط ٢٠١١، ثم الرئيس محمد مرسيفي يوليو/تموز ٢٠١٣، ثم عينت ثالثاً باعتباره "رئيسا مؤقتا" بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب.

وفي يناير/كانون الثاني ٢٠١٤، رشح المجلس العسكري أحد أعضائه للرئاسة مثلما تفعل الأحزاب السياسية. وأصبح المُرشح رئيساً للجمهورية بنسبة فاقت 96٪ من الأصوات. ولكن خلافا لصدام حسين والقذافي والأسد وبقية من "يفوزون" بهذه النسب، لا يمكن دستورياً لرئيس النظام أن يقيل وزير دفاعه إلا بعد موافقة المجلس العسكري، ولكن ذلك قد يتغير.

أما من جهة الثورة، فأسوأ التغيرات على الإطلاق تمثلت في فقدانها مكاسبها المرحلية ما بين فبراير/شباط ٢٠١١ ويوليو/تموز ٢٠١٣، وهي: الحريات الأساسية، ونزاهة الصندوق الانتخابي، ومحاسبة رئيس النظام السابق وبعض قياداته. كما فقدت الثورة كافة المبادرات والتحركات الجادة على أصعدة العدالة الاجتماعية، والإصلاح الاقتصادي والأمني، والعدالة الانتقالية وحقوق الانسان، وزُجّ بالكثير من قيادات التغيير -الإصلاحية منها والثورية- في السجون.

ومع أن ذلك لم يوقف الحراك الداخلي بل ضاعف حالة الغليان؛ فإنه أدى بشكل مباشر إلى نزوح ما بين عشرات ومئات الآلاف من المصريين لأسباب سياسية، ومن بينهم برلمانيون ووزراء سابقون وحتى نواب رؤساء مُعَيّنون بعد انقلاب ٢٠١٣، بالإضافة إلى نشطاء سياسيين وكتاب وصحفيين وإعلاميين بارزين من اتجاهات سياسية متعددة، وهي المرة الأولى في تاريخ مصر -منذ إعلان الجمهورية- التي تنزح فيها معارضة بهذا الحجم والثقل إلى الخارج لأسباب سياسية.

الثورة والسيناريوهات المحتملة
استبدلت كوابيسُ القتل الجماعي والاختفاء القسري والتعذيب الممنهج والحكم العسكري الاستبدادي والانتخابات الهزلية أحلامَ ثوار يناير في العيش والحرية والكرامة والعدالة. ولم تكن تلك الكوابيس ضمن توقعاتهم في فبراير/شباط ٢٠١١، أو في ذكرى سقوط مبارك الأولى (فبراير/شباط ٢٠١٢).

وكان الاستقطاب قد بلغ أشده بصراعات الشوارع بين قوى التغيير بحلول فبراير/شباط ٢٠١٣، بينما كانت قوى النظام السابق والنظام القادم (في يوليو/تموز ٢٠١٣) تنسق مع بعضها.

بعد ست سنوات من سقوط مبارك؛ ماذا بقي للثورة من مسارات محتملة باتجاه "العيش والحرية والكرامة والعدالة"؟ توجد خمسة مسارات محتملة لو نظرنا بشكل مقارن:

 

المسار الأول: هو استمرار الوضع على ما هو عليه الآن، وهو خليط من المقاومة المدنية (مسيرات، إضرابات، وقفات احتجاجية وفي أفضل الأحوال اعتصامات، مع اللجوء للإعلام والقضاء حين تتاح الفرصة). ويضاف لذلك ما تفعله المعارضة عبر تكتلاتها في الخارج (رغم انشقاقاتها ونزاعاتها الداخلية)، هو يتراوح ما بين النشاط الدبلوماسي والسياسي والإعلامي والحقوقي والقضائي الدولي.

والذي يجب أن يُفَهم هو أن هذا مسار "ضغط" بالأساس وليس مسار "تغيير"؛ فالمقاومة المدنية سقفها هو إيجاد مقعد وثير على طاولة التفاوض وليس قلب الطاولة، وهو ما يُجمع عليه معظم علماء هذا التخصص. ومنطق "التغيير" من خلالها يأتي عبر تحييد المؤسسات المسلحة ومنع تعاطفها أو التقاء مصالحها مع كل مطالب أو بعض مطالب المقاومين.

وفي الحالة المصرية أزيح رئيسان من خلال هذا المسار: مبارك ومرسي. الأول مستبد أكمل ست مُدَدٍ رئاسية بانتخابات واستفتاءات هزلية، وآخر خط دفاع له (الحرس الجمهوري) لم يدافع عنه في ٢٠١١، ولو قرر الدفاع لتعقدت الأمور أكثر. أما الثاني فهو أول رئيس منتخب في انتخابات نزيهة، ولم يكمل ربُع مدته ولم يُمكّن فيها. ورغم الحشد له والحشد المضاد له فإن الحرس لم يدافع عنه كذلك.

ولكن تكرار ما حدث لهما -وبنفس السيناريو- مع الرئيس الحالي غيرُ مرجَّح لعدة أسباب: أولا، لأن التعاطف والحياد من قبل قيادات المؤسسات المسلحة غير موجوديْن. وثانياً، لأن هذه القيادات تنظر إلى الثورة بوصفها تهديدا أمنيا لا تحركاً تغييريا إيجابيا، وخاصة في نظرتها لبعض التنظيمات المؤيدة للثورة كجماعة الإخوان المسلمين.

وثالثا، من المستبعد ألا يكون رئيس النظام الحالي قد استوعب الدرس؛ فهو بلا شك استثمر وسيستثمر في "شبكة إنقاذ". ومن هنا تأتي التغييرات المتعددة في الحرس الجمهوري في السنوات الثلاث الماضية، وكذلك إنشاء "وحدات التدخل السريع" على أعين بعض أقاربه.

المسار الثاني: هو مسار المصالحة والتسوية، وهنا تصطدم العدالة بالتهدئة. فالانتهاكات التي ارتكبها النظام الجديد خلال ثلاث سنوات لم يرتكبها نظام مبارك في ثلاثين عاما من الاستبداد القمعي. فأزمة مقتل أكثر من ألف معتصم في ميدان رابعة(أغسطس/آب ٢٠١٣) خلال أقل من عشر ساعات أمام كاميرات العالم، قد تمرّ دون محاسبة جادة في حالة المصالحة. وكذلك أزمة ما يفوق أربعين ألف معتقل سياسي والمئات من حالات الاختفاء القسري.

 

وفي العديد من الحالات المشابهة تمت التضحية بالعدالة مؤقتا من أجل السلم الاجتماعي، ولعل أبرزها الحالة التشيلية. فالجنرال أغوستو بينوشيه قاد انقلابه الدموي في تشيلي عام ١٩٧٣، وخسر الاستفتاء الشهير على بقائه في ١٩٨٨، وسلم السلطة سلميا بتسوية غير عادلة في ١٩٩٠، ولم يُقبض عليه إلا ١٩٩٨ (وفي بريطانيا لا تشيلي). وكذلك حالة الدكتاتور التركي السابق كنعان إيفرين الذي قاد انقلابه في ١٩٨٠ ولم يحاكم إلا في ٢٠١٢.

ورغم أن حالات كثيرة أخرى انتهت بعكس ذلك (أي بمحاسبة عادلة وسريعة)، فإن الشرط كان اختلال موازين القوى لصالح التغيير (ثوريا كان أو إصلاحيا). أما في الحالة المصرية، فإن موازين القوى مختلة لصالح النظام، ومن الواضح أنه لا توجد إرادة سياسية جادة لدى قياداته للمصالحة والتسوية، حتى ولو قبلت قيادات المعارضة بذلك.

المسار الثالث: هو مسار المعارضة من داخل النظام وبقواعده وشروطه، وهوما كانت تفعله بعض الأحزاب السياسية وجماعة الإخوان في حقبة مبارك. والجدل في مميزات وعيوب هذا المسار يطول، ولكنه ليس آلية تغيير ولا آلية ضغط فعالة بسبب جمود وتشنج المنظومة.

وإنما قد يؤثر هذا المسار إيجابيا في ملفات معينة، كبعض قضايا حقوق الإنسان والمرأة والأقليات. وهذا المسار مرفوض من النظام الحالي لأسباب عدة منها -كما أسلفنا- أنه مختلف عن نظام مبارك.

المسار الرابع: هو مسار "الإصلاح من أعلى" عبر حزمة إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تتبناها قيادات في النظام، على غرار "إصلاحات" سيف الإسلام القذافي (ما سمي "مشروع ليبيا الغد")، وبشار الأسد (ما سمي "ربيع دمشق" عام ٢٠٠٠)، وجمال مبارك(مشاريع لجنة السياسات وجمعية المستقبل)، أو حتى إصلاحات الراحل أنور السادات في أوائل السبعينيات.

ويبدو أن هذه الإصلاحات غير واردة في مصر؛ فرغم التدهور الاقتصادي غير المسبوق ومستويات القمع والفساد التي تجاوزت عهديْ مبارك وعبد الناصر بمراحل، والاستقطاب المجتمعي الشديد، فإن رئيس النظام لا يكفّ عن ذكر "إنجازاته غير المسبوقة" ومشارعيه القومية التي تخطت مشاريع عبد الناصر، ويشكو من عدم تقديره بسبب ذلك. 

المسار الخامس: وهو المسار الذي يبدو أنه حليف الثورة الأول، وملخصه هو استمرارية فشل سياسات النظام على المستوييْن الاقتصادي والاجتماعي، وتليهما مستويات القمع. وما سينتجه هذا المسار غير واضح حتى الآن، وإن كانت مآلاته ليست في صالح استتباب النظام الحالي.