كثيرة هي المشاريع الفكرية التي يمكن تجاوزها بكل سهولة، ونحن نشخص ونسعى لإيجاد إجابات عن واقع العقل العربي، ولكن نجد أنفسنا مرهونين ومُكبلين بثقل بعض المشاريع التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم تجاوزها أو التغاضي عنها، رغم أنها كانت إجابة عن واقع متقدم من الناحية الزمنية والمكانية، وعالجت “واجب الوقت” الذي كانت تعيش همه.

  وهو الحال مع  المشروع  الفكري النقدي للدكتور محمد عابد الجابري الذي:

  • ما يزال يمتلك راهنيته في تقديم رؤية لواقع التخلف و “حالة الخُلف” العربي سواء من الناحية الفكرية أو التنموية..
  • استمرار الدراسات والكتابة حول فكره ومشروعه في الوسط الشبابي الجامعي.
  • ثقل مشروعه النقدي لا من حيث الإنتاج (الكتب) ولا من حيث مقولاته وأطره المرجعية.
  • البعد العملي في مشروعه، حيث يمكن أن ندخله في الفلسفة العملية التطبيقية لا التأملية وفقط.
  • قوة الجابري في الجمع بين المضمون المعرفي والمحتوى الايديولوجي، مع انخراطه السياسي[1]
  • امتلاكه لسحر الكتابة الصحافية، التي كان يستعين بها في الاثارة[2]
  • قدم مقولاته التفكيكية في حلة مُستوعبة، لدى النخب والشباب المثقف بشكل عام، عكس بعض المفكرين الذين قدموا مقولاتهم بشكل مركب.

يندرج الدكتور الجابري ضمن قائمة من ثلة  أعلام الفكر العربي (الطيب تزيني، حسن حنفي، زكي نجيب محمود، محمد أركون، حسين مروة،..) الذين كانوا يبحثون عن سؤال الأزمة وسؤال النهضة، والذين استعانوا بمعاول نقدية غربية متمثلة في مناهج العلوم الإنسانية لقراءة التراث، وطرحوا سؤال موقع  التراث والثقافة في واقع الخُلف العربي،  غير أن الدكتور الجابري لم يبق مرهونا بمنطلقات نقد التراث التي انخرط فيها بعض أقرانه في المشروع التفكيكي، بل تخصص في مطلع الثمانينيات بنقد الأداة التي تنتج التراث (العقل العربي)[3].

في كتاب نقد العقل العربي بأجزائه يرتكز على التحليل البنيوي للبناءات الكبرى في الثقافة العربية، بنية  البيان وبنية العرفان وبنية البرهان، وفي تكوين العقل العربي يتحدث عن علاقة المعرفي بالأيديولوجي، وكيف يتم الحراك الايديولوجي السياسي بتوظيف المعرفي لمصالحه. ومن خلا البنية والتكوين، استطاع أن يفكك العقل العربي، ويقدمه للنخب وللمثقفين في حلة واضحة جعلتها منطلقا لطرح سؤال الذات والهوية.

صحيح أن مقالنا هنا غير معني بتقديم مشروع الجابري الاكاديمي، لان الكتابة في هذا ممتدة منذ ان طرح الجابري معالم مشروعه النقدي، لكن دافعنا هنا هو قوة مشروعه في مسايرة التوترات المؤرقة للعقل العربي، وتقديمه لمادة معرفية سلسلة للشباب وللحركية السياسية، عكس حال المثقف اليوم الذي لم يستطع أن يحدد موقعا طبيعيا له يُرشد ويوجه من خلاله حركية عجلة التنمية والثقافة ببلداننا، خصوصا في ظل تصاعد خطاب يُقصي الفكر والنقد من الساحة العربية.

حاجتنا للجابري اليوم ملحة لأنه قدم أطروحته في إطار مشروع، لا إنتاج كتاب هنا وهناك، بدون رابط أو تناسب، وهو حال واقعنا الثقافي اليوم، الذي تعيش فيه مكتباتنا تخمة من حيث الإنتاج الفكري ولكن إنتاج غير مسبوك وغير متناسق ومتناص، مما يجعل تأثير انتاجاتنا محدودا على واقعنا التنموي والاجتماعي.

المثقف والربيع العربي

في إحدى حوارات الدكتور الجابري، سُئل عن موقفه من الإرهاب والتطرف والجماعات العنيفة في بلداننا، فقال “الحضارة الغربية تتصارع مع منتجاتها” هذا جواب مثقف مستوعب للتحولات والوقائع، ولم يرتهن لاجابة ايديولوجية حدية، تعتبر أن التراث والذات سبب مهم في المنتجات السلبية التي عرفها مجالنا التداولي..فيا ترى كيف سيكون موقف الجابري اليوم من بعض التحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها منطقتنا وهو الذي كان مهووسا بالهم العربي الاسلامي، بكل توتراته سواء الفكرية أو الدينية او السياسية؟

محمد عابد الجابري  تحدث عن مساره أكثر من أي كان، فباكورة سلسلة مواقف، كانت وعيا استباقيا لهذا المفكر الذي أبى ضميره إلا أن يُشرك جيلا من هذه الأمة، مشاكل عاشها وعاشتها مرحلته، فقدها في حلة “لذيذة” بالمعنى الثقافي والفكري للذة، وتحدث عن في بعض أجزاء السلسلة عن انخراطه في مرحلة “الوعي بالتخلف والأزمة” كخطوة لامكانية اجاد حلول عملية لحالة الخلف والتدهور، وتنبأ أن مرحلته عاشت مرحلة هذا الوعي بالتخلف، واستشرف خروج الشباب منها بعد أن يراكموا عمليا تجربة تنموية وثقافية لتحريك عجلة التنمية، وهو ماكان بالفعل.

الجابري كمثقف ركب سفينة السياسية ردحا من الزمن، لم يُثنه الهم الأكاديمي والعزلة الاضطرارية التي تحتاجها الكتابة الأكاديمية للتخلي عن “الهم الوطني” وإدارة ظهره عن مطالب وهموم الشباب، بل وظف لغته ومنهجه في الجامعة وغيرها، ومع الطلبة والباحثين، ومع المراكز العلمية والسياسيين، دون أن يرتهن إلى كرسي، أو موقع تنظيمي، أو منصب، بل لعب دورا يتناسب مع موقعه كمثقف، ولوعة المثقف الملتزم، بالهم الأكاديمي أولا، وبالانخراط العملي في الشأن العام بدون ارتهان لمنصب أو موقع.

إن الرهان على تحقيق التنمية والتقدم، دون مواكبة ثقافية وفكرية محكوم عليه بالتعثر إن لم أقل الفشل !!

ولهذا فحاجتنا اليوم إلى يقظة المثقفين ذووا المشاريع المتكاملة، أصبح ملحا، وإن تواريهم هو ما جعل الخطاب التبسيطي الوصفي يطفوا على السطح، ويؤثر على الشباب ويستهوي الفراغ الذي يعيثون فيه.

ومن هذا المنطلق تأتي حاجتنا الى الجابري كمشروع ومثقف، لتسريح روح الوعي بأهمية الرقي الفكري، والسمو الاكاديمي بطليعة شبابنا اليوم، الذي أصبح مكبلا بقيود الوعظ المحدود، والكلام المطلوق على عواهنه، غير المستوعب لتراث وتاريخ هذه الأمة، وواقع جديد بمؤسساته وقوانينه.
———————————————-

[1] – ما يميز الدكتور الجابري هو قوته في الجمع بين العمل السياسي والفكري، حيث كان منخرطا في حزب الاتحاد الاشتراكي، وكتابته للتقرير الأيديولوجي للحزب، ولاغلب البيانات السياسية، وهو ما جلاه في سلسة مواقف

[2] – من المعلوم أن الجابري كانت له تجربة صحفية في جريدة حزب الاتحاد الاشتراكي وهو ما أهله لامتلاك بعض سحرها خصوصا في الاثارة

[3] – نقد العقل السياسي العربي والعقل الاخلاقي العربي وبنية العقل العربي


عبد الخالق بدري