تنبأ المؤرخ الأميركي البروفسور رونالد فينمان بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيبقى على رأس السلطة في الولايات المتحدة لفترة تتراوح بين 31 يوما و199 يوما فقط، أي أن فترة حكم ترامب ستكون ثاني أقصر فترة حكم في التأريخ الأميركي! لقد كانت فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل وليم هنري هاريسون 31 يوما فقط إذ أصيب بمرض التهاب الرئة أدى الى وفاته ونهاية حكمه في عام 1841 فسجل الرقم القياسي في قصر فترة الحكم. بينما حكم أميركا الرئيس الراحل جيمس غارفيلد لفترة 199 يوما بعد أن غادر الحياة إثر إصابات بالغة تعرض لها في عملية إغتيال 1881. ومهما يكن من أمر وحتى إن طالت فترة ترامب في الحكم فستكون، برأي الكثير من المحللين السياسيين، قصيرة وموجزة نظرا للشذوذ الواضح في سيرة هذا الرجل السياسية وتصرفاته المثيرة للجدل حيث يمكننا تلخيص أسباب ودواعي فشل ترامب المتوقع في إكمال فترة حكمه حتى نهاية ولايته بما يلي:

أولا/ إفتقار الرئيس الأميركي الحالي للمعرفة والخبرة والحنكة السياسية المطلوبة والمفروضة لشغل منصب رئيس أقوى دولة في العالم، حيث أن النجاح في ساحة التجارة وفي منصة الإعلام لا يعني بالضرورة النجاح في خضم السياسة وتفاصيلها. فقد أظهر ترامب، وهو نجم تلفزيون الحقيقة وتاجر العقارات المعروف، بأنه لا يمتلك مهارات سياسية موازية تؤهله للوصول الى أهدافه المرجوة والى تحقيق برنامجه الإنتخابي حيّا على الساحة دون الوقوع بالمطبات القانونية والإدارية والإنسانية، بل على العكس، التخبط والأخطاء كللت فترة حكمه القصيرة وهو لا يزال في بداية المطاف.

تحدى ترامب في تصرفاته منهج الدستور الأميركي وناقض القضاء وشاكسه مما أدى هذا الى فشل ذريع في مشروعه الأول الذي كان الهدف منه حماية أميركا من الإرهاب. أعطى بتصرفاته الإرتجالية غير المدروسة في مشروعه بمنع مواطني سبع دول، ذات أغلبية سكانية مسلمة، صورة تخالف بفحواها قوانين الدول ونواميسها، مما جعل القضاء الأميركي يتدخل لمنع مهازل تصرفاته. كما أن تحمسه في الغاء قانون الرعاية الصحية أو ما يسمّى بـ "أوباما كير" الذي تبناه سلفه الرئيس السابق باراك أوباما يعني الإضرار بحالة ملايين الأميركيين دون أن يعرض البديل الناجع لهذا الإلغاء مما جعل الأمور سائبة غير واضحة بهذا المضمار. إعلانه الحرب على الإعلام ووسائله واتهامه له بعدم المصداقية في نقل الحقائق هو ظاهرة جديدة وغريبة تظهر إماراتها من خلال تصرفاته بمنع بعض الصحفيين لتغطية وقائع سياسية خاصة به وتهديداته بإجراءات أخرى ضد الإعلام وكأنه يسير بخطى الأنظمة الدكتاتورية التي لا تسمح بحرية القول وعرض الأخطاء وإبداء الرأي المخالف.

لم تقتصر هفوات ترامب على الصعيد الداخلي فحسب إنما إجتازت الحدود نحو الخارج حيث لا توجد دولة في العالم تطمئن وتستكن لسيرة هذا الرجل ومفاجآت تصرفاته، فهو يهدد ويتوعد في سياساته الخارجية منذ البداية وكأنه ناقم على العالم كله! يهدد الصين وإيران وكوريا الشمالية إقتصاديا وعسكريا ويحاصر المكسيك بجدار حدودي إقتصادي أمني ونفسي، ويتوعد بإلغاء إتفاقيات سابقة كانت أميركا قد عقدتها مع الدول سواء كانت على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو العسكري والاستراتيجي دونما تردد وحرج. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فأنه هدد بإلغاء إتفاقيات تتعلق بمفاهيم التجارة الدولية الحرة كالتجارة الحرة لأميركا الشمالية "إتفاقية النافتا". وعلى صعيد آخر هدد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران لأنه اتفاق سيء بنظره، بينما أظهر عدم إهتمامه بمفهوم "حل الدولتين" في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي إبان زيارة رئيس وزراء إسرائيل لأميركا مؤخرا. وفوق هذا وذاك فقد ارتفعت صيحات غضبه على حلفائه المقربين وهم الأوروبيون بالدرجة الأولى حيث وصف حلف الأطلسي "الناتو" بأنه حلف بالٍ وقديم وأشترط فتح صناديق مال الأوروبيين له كي يستجيب لحمايتهم والبقاء معهم من جانب، ومن جانب آخر خالفهم في مشروعه النظري المزمع لرفع الحصار الإقتصادي عن روسيا.

ثانيا/ شخصيّة ترامب مثيرة الجدل: لا يخفى على أحد خصائص وسيرة وتفاعلات ترامب التي تشير على طبيعة إستثنائية وغريبة لشخصيته متجسدة بتناقض الأقوال وبوهم الإعتقاد وبالشعور بالإضطهاد وكذلك النرجسية وجنون العظمة. هذه الصفات بدت واضحة للعيان من خلال سلوك ترامب وأقواله أمام الملأ وإتهاماته المستمرة بعدم الصدق وعدم الإنصاف لكل من يعارضه بالرأي أو التصرف. فقد رأى بأن القضاء سيء وغير كفؤ وغير عادل حينما أوقف أوامره التنفيذية بمنع بعض المسلمين من دخول أميركا! بينما أعتقد بأن ملايين الأصوات الفضائية حسبت لغريمه بالإنتخابات زورا وبطلانا، وأتهم مؤسسات أميركية عريقة ومهمة مثل الـ "سي آي أيه" و"أف بي آي" بأنها تريد الإيقاع به وتتصيد له بالماء العكر، وهذه أمثلة واضحة وحيّة عن شعوره بالإضطهاد من قبل الآخرين.

أمثلة "وهم الإعتقاد" التي تحيط بفكر الرئيس ترامب كثيرة ومتعددة وكان أخيرها وليس آخرها هو تصريحه في الحشد الأميركي المجتمع إبان زيارته الأخيرة لفلوريدا حيث قال بأن "في ليلة أمس حدث عمل إرهابي في السويد لا يطاق". وفي الحقيقة لم يحصل أي حدث إرهابي في تلك الليلة في هذا البلد! كما صرح أيضا إبان عقده للمؤتمر الصحفي الأخير في البيت الأبيض بأنه حصل على أعلى نسبة مقاعد في الإنتخابات مقارنة بالرؤساء الذين سبقوه والحقيقة هي ليست كذلك. هنا أشير وأعبر بـمصطلح "وهم الإعتقاد" وهو مصطلح طبي وعارض لبعض الأمراض النفسية والعقلية ولا أستخدم كلمة "الكذب" لأنه ليس من المعقول أن يكذب شخص بهذه المنزلة العالمية أمام الملأ بأمور معروفة وواضحة للقاصي والداني! لا بد أن تكون لهذه الأحداث دلالة على خلل نفسي أو عقلي يظهر بأعراض مميزة منها وهم الإعتقاد والشعور بالإضطهاد وغيرها.

هذه الأوهام أن تكررت وتفاقمت فإنها ستنهي مصداقية هذا الرجل أمام العالم بشكل عام وأمام شعبه وجمهوره بشكل خاص وسيتساءل الجميع عن سر المشكلة وخفاياها وأبسط ما في التشخيص هو أمر كارثي لا يمكن أن تسير الأمور فيه وتبقى.

ثالثا/ الفضائح السياسيّة: لا يستغرب المحلل للأوضاع أن تتكشف يوما بعد يوم خفايا وأسرار تصل بدرجتها وأهميتها الى خانة "الفضائح" في السياسة الأميركية. تورط مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين في محادثات سرية مع مسؤولين روس وعلى الأخص السفير الروسي لدى واشنطن، قد يكون له تأثير خطير على مستقبل ترامب وحكمه، خصوصا إن تأكدت بعض التهم التي تشير الى تدخل وتأثير روسي في سير الإنتخابات الأميركية الأخيرة الى صالح ترامب مقابل صفقة رفع الحصار الإقتصادي عن روسيا. مثل هذه الفضائح إن تأكدت وتبلورت تفاصيلها فإنها كافية أن تهز عرش ترامب وتقوضه، كما أن الدندنات المتوالية والتي ترددها وسائل الإعلام توحي بوجود فضائح أخرى ربما تطفو على السطح بين الفينة والأخرى.

رابعا/ الفوضى في البيت البيض: رغم مرور ما يزيد قليلا على الشهر الواحد منذ تسنم ترامب للسلطة فأن المتابع للأحداث يسمع ويرى شدة وحجم التناقضات والتغيرات والأحداث الغريبة الجارية في ثنايا البيت الأبيض وبمن فيه! لا يستطيع المتابع أن يستنتج في خضم هذه التناقضات أين هو الإتجاه الصحيح، فالرئيس يصرح في واد ومساعدوه يصرحون في واد آخر. إن أبسط مثال على ما نقول هو إنتقادات ترامب لحلفائه الأوروبيين ونظرته التي لم يتردد بالإفصاح عنها حينما صرّح بأن الإتحاد الأوروبي في طريق الإنحلال والتقهقر وهو السبيل الصحيح له وذلك أثناء لقائه مع رائد من رواد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي نايجل فراج. هذا النهج والتوجه غايره وناقضه نائبه مايك بنس حينما دعم دول الإتحاد الأوربي وشدد على بقائه وبقاء لحمته وإتحاده وذلك خلال زيارته لبروكسل مؤخرا. وفي مناسبة أخرى صرّح ترامب بان السيطرة على منابع النفط في الشرق الأوسط قد تكون صيغة عملية من أجل منع مقاتلي داعش من الإستحواذ عليها والإستفادة من مردوداتها، بينما ناقضه وزير دفاعه جيمس ماتيس حينما صرح إبان زيارته للعراق مؤخرا بأن بلده ليس لديه أي فكرة أو مشروع بالإستحواذ على آبار نفط الغير. وأخيرا وليس آخرا فأن الرئيس صرّح بأن عملية ترحيل الأجانب الجماعية ستكون عسكرية بينما نفى وزير داخليته جون كيلي ذلك! تناقض التصريحات هذه بين المسؤولين ورئيسهم من جهة، وإستقالة أو إقالة بعض هؤلاء المسؤولين من جهة أخرى، تدل على مدى الفوضى والتخبط في البيت الأبيض.

بهذه الفترة القياسية القصيرة من فترة حكم ترامب وبهذا الحجم الكبير من المتناقضات والمطبات الحاصلة فيها، لا يستطيع أحد أن يتصور بقاء رئيس لدولة عظمى، يتناقض مع نفسه من جهة ويتناقض مع الآخرين من جهة أخرى، لفترة طويلة في الحكم إن استمرت سياسته على نفس الوتيرة وعلى نفس النسق دون أن يغيّر نهجه ومساره أو دون أن يسحب البساط من تحت قدميه من قبل المتنفذين ممن حوله في البيت الأبيض. فحسب طبيعة هذا الرجل الشخصيّة وحسب عقده النفسية فإنه ليس من المتوقع أن يستقيل عن مهامه بنفسه ومهما تكالبت عليه الأمور لأنه لا يرى أخطاءه ولا يحس بمضاعفات تصرفاته بل يشعر دائما أنه مصيب وهو على حق في كل شأن من الشؤون، وهكذا فلا مناص للتخلص منه إلاّ بالتهميش أو الإقالة وطي سجله الى الأبد!

 

د. محمد مسلم الحسيني

أستاذ في علم الأمراض

بروكسل