باسل الأعرج يسقطُ في الأعالي شهيدا... ألقى بعباءةِ كل التنظيمات بعيدا... تَزَيتْهُ رسالةُ "المثقف المتشابك" واثقا... تناثرتْ روحه فلسطين طُهْرا... وسرقَ العدو جسده جُبْنا.

فهل هي عَودةُ المثقف الواعدة، للاشتباكِ مع الاستسلامِ والظلمِ والقبحِ والتخلف، يا فلسطين...؟

وكأنني أرى حادِساً، واثقاً وليس حالماً فقط، أفقاً خلاقاً كهذا يتشكل. فمِنْ أين يأتيني، هنا والأن، ما يشبه الحنين للزمنِ الجميلِ الذي كان، والآتي حتماً كأنه إشراقة شمسٍ تُزًينُها الحرية ووصايا الشهداء...؟

أغلقُ هذا القوسَ الشاعري، وأطرقُ بالمناسبةِ ما استقر في أدبياتِ "جدلية التحرير والتحرر" الشاملِ للأرضِ والإنسانِ، تحت عنوانِ "المثقف العضوي" في سياقات ما بعد منتصفِ القرنِ الماضي، ثم "المثقف المتشابك" في السياقِ السائرِ بِرَوِيةٍ وإصرارٍ، نحو التشكلِ والانطلاقِ، أفقاً للمستقبل.

في العقودِ التي تَلَتْ استقلالاتِ بلدانِ العالمِ العربي، تَبَلْوَرَ مفهومُ "المثقف العضوي" ومعه مفهوم "المثقف الجماعي"، ضمن "نظرية الاشتراكية العلمية" كمنهجيةٍ ومشروعٍ مجتمعي، كفيلان بتحقيق الانتقالِ الموثوقِ داخل هذه المجتمعاتِ؛ أعني الانتقال مِنَ وضعيةِ التبعيةِ والاستبدادِ والتخلفِ، إلى وضعيةِ التحررِ والحريةِ والتقدم.

وهكذا، سيجدُ المثقفُ العربي الأصيلُ والإنساني نفسه على امتدادِ أكثر من نصفِ قرنٍ، بدءاً من العالمِ والمفكرِ والشاعرِ، مروراً بالمسرحي والرسامِ، وانتهاءً بالكاتبِ والموسيقي والمبدعِ عموماً (...)، في قلبِ الصراعِ والفعلِ الإبداعِ من أجل تحقيقِ هذا الانتقالِ النبيلِ، في أفقِ بناءِ أوطانٍ ينتفي فيها القهرُ والعسفُ والفوارقُ والتمييزُ ودونيةُ المرأةِ واستغلالُ الإنسانِ لأخيه الإنسان.

وهي الفترةُ الزمنيةُ التي أنجبتْ فيها الأمةُ العربيةِ، من الشرقِ العربي إلى المغربِ العربي، كبارَ المفكرين والمثقفين والمبدعين والمبدعاتِ بالأذهانِ والأقلامِ والخيالِ الخلاق (...)، سقط العديدُ منهن ومنهم في السجونِ والمعتقلاتِ والمنافي أو شهيداتٌ وشهداءٌ، على يَدِ الأنظمةِ المستبدةِ أو الموسادِ الإسرائيلي أو قوى التكفيرِ والظلامِ والطائفيةِ المقيتة.

وإنه ليصعبُ ويتعسرُ عدهم وعدهن، مِنْ عمر المختار، عبد الكريم الخطابي، غسان كنفاني، سعيدة المنبهي، عمر بنجلون، بول باسكون، حسين مروة، سناء المحيدلي، فرج فودة، عزيز بلال، عصام السرطاوي، مهدي عامل، أمل دنقل، توفيق زياد، ناهض حتر، محمود درويش، باسل الأعرج (...)، واللائحة تطول.

منذُ العقدِ الأخيرِ من القرنِ الماضي، استجدتْ في الواقعِ العربي معطياتٌ مِنْ قبيلِ استفرادِ الصهيونيةِ والإمبريالية الأمريكية بالقرارِ الدولي عبر غزوِ العراقِ، انتشار أوهام المجتمع الاستهلاكي على نطاقٍ واسع، اتفاقيةِ أوسلو السيئةِ حتى في الذكر، الإسلام السياسي، ثقافة التكفير والبترودولار، تدفقِ الفضائياتِ والفتاوي ووسائلِ التواصلِ الاجتماعي، التفقير وتهميش التعليمِ والعلمِ إلى حد الإجهازِ عليه (...)، لِتَطَوقَ العقلَ والعقلانيةَ وكل تفكيرٍ نقدي علمي أو إبداعٍ حر متحرر... وبالنتيجةِ، مُحاصرةُ المثقفِ، الاستفرادُ به وتطويقه؛ فإما الذوبان في وَسَخِ الكراسي وفُتاتِ الامتيازاتِ أو البقاءِ عُرْياً بين أنيابِ الجهلِ والتكفيرِ والنسيان.

هنا والآن، يا أيها الباسل ويا فلسطين؛ هل هي العودةُ الواعدةُ- تجديداً وتحييناً وأملاً- لمفهوم "المثقف العضوي"، الفردي تأسيساً لإعادةِ تشييدِ وبناءِ "المثقف الجماعي"، إلى ساحةِ الفعلِ والعطاءِ الخلاقِ للحريةِ والتحريرِ والتحرر، للاشتباكِ مع الاحتلالِ والطغيانِ والاستغلالِ والتضليلِ والإذلالِ والقبحِ والتبعيةِ، من أجل مجتمعٍ ينتفي فيه الظلمُ والظلامُ وكل أصناف الظلاميين واستلابُ الإنسانِ لنفسه واستغلالُه لأخيه الإنسان...؟

لعلها الشرارةُ والبشارةُ وأولُ الإشارة... فأولُ الغَيْثِ قطرة، والله المعين.


محمد الفرسيوي