في كل اللحظات المفصلية و الحاسمة من تاريخ مغرب ما بعد الاستعمار يثار النقاش الدستوري بشدة. يفتح كقوس أمل وسرعان ما يغلق .فالتصويت بنعم من طرف جزء من النسق السياسي الذي يكون عصيا بعض الشيء ,هي غاية كل تعديل من التعديلات التي عرفها الدستور المغربي.فالتصويت بنعم على دستور 1996 من طرف أحزاب المعارضة في تلك المرحلة, كان غاية النظام ومبتغاه. وإدماج جزء آخر في اللعبة.كأن قدر الجميع ان يذاب  في براد المخزن كما تقول الحكاية (حكاية أوردها ذ نور الدين مفتاح في إحدى افتتاحياته و ملخصها أن كل التنظيمات و الأحزاب تشكل نوعا من السكر منها سريع الذوبان ومنها المتوسط و منها الصلب العصي الذي يتأخر ذوبانه لكنه يذوب في نهاية المطاف,براد المخزن وسخونة الماء تذيب كل أنواع السكر) كان التصويت بنعم ايذانا بنهاية مرحلة شد الحبل العلني بين معارضة تلك المرحلة و نظام الحسن الثاني.وبداية التعايش وسميت المرحلة بأسماء كثيرة منها الانتقال الديمقراطي و الانتقال نحو الديمقراطية المصالحة...ربما كانت هناك أسباب أخرى نعم, لكن الأهم كان هو إدماج الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في النسق ألمخزني وليس السياسي وتم ذلك بنجاح.(ربما بحسن نية من طرف ذ عبد الرحمان اليوسفي ولكن وبغباء في مرحلة ما بعده حيث أصبح زعيم الاتحاد الجديد سعيدا بكونه يمثل معارضة صاحب الجلالة.) لكن المفاجأة ستكون باستبعاد اليوسفي من الوزارة الأولى رغم تبوؤ الاتحاد للمرتبة الأولى في انتخابات 2002 وكان البلاغ الشهير "الخروج عن المنهجية الديمقراطية".وصدقت نبوءة العديد ممن كانوا يطالبون بمأسسة العلاقة والعودة إلى النص الدستوري و التأكيد على أهمية الإصلاح الدستوري و اعتبار ذلك هو الضمانة الأساسية لكل انتقال حقيقي...

ومع وصول شرارة الربيع العربي إلى المغرب سنة 2011 كانت الشعارات كلها تصب في اتجاه واحد, لكن بعناوين متعددة و بتفاصيل مختلفة,إسقاط الفساد و الاستبداد.فصل السلط .إبعاد الثروة عن السلطة ,ربط المسؤولية بالمحاسبة.الملكية البرلمانية...الخ. "إسقاط النظام" كشعار وحد كل الأقطار العربية التي مر منها الربيع العربي لم يجد تربة مناسبة في المغرب لأسباب كثيرة ليس المجال لتفصيلها,كانت الشعارات تبحث عن مدخل تعبر من خلاله لتصبح واقعا,لم يكن المدخل غير الدستور وهذا تأكيد للمنطلق الذي منه ابتدأنا.كان خطاب 9 مارس  وكانت اللجنة المكلفة بتعديل الدستور مجتمعة تستمع له و كانت المذكرات و الاجتماعات و المشاورات كما لو أن الأمر حقيقة يسير في الاتجاه الذي يفتح الباب لإصلاح حقيقي. وحدهم المهندسون الحقيقيون لمسار الأمور في البلاد من يعلمون بالتفاصيل.

وكان الاستفتاء وهو المدخل الرئيسي لتذويب العاصي من السكر الذي تحدثنا عنه سابقا.سنة2011 المعني بعملية الذوبان كان "حزب العدالة و التنمية" وصوت بنعم. هي نفسها  نعم اتحاد 1996 وهي نفس المبررات .السكتة القلبية و الانتقال الديمقراطي هي نفسها الفوضى و الإصلاح في ظل الاستقرار ,فقط كلمات بدل كلمات.لكن الأشخاص غير الأشخاص و الكاريزمات شتان بينها.أبدا لن يكون بنكيران هو اليوسفي.ليس دفاعا عن اليوسفي رغم انه أسس لانتقال سمي ديمقراطيا بعقد شخصي و عرفي, و لا انتقاصا من شخص بنكيران رغم انه كان ضربة قاصمة لظهر أحلام كثيرة ذهبت أدراج الرياح. ليس المراد هنا المقارنة بين الرجلين (رغم اعتقادي بأنه لامجال للمقارنة) وإنما المراد هو الوقوف على مكمن الخلل.في اعتقادي الخلل كامن في النص الدستوري الذي لا يجيب عن الإشكالات الحقيقية والمعرقلة فعلا للانتقال نحو النظام الديمقراطي المنشود.ما وقع من" بلوكاج" رغم طول مدته لم يفتح أعين محللي قنواتنا إلى أن الخلل في النص بل اغلبهم ذهب في اتجاه شخصنة النقاش ولربما هذا ما أوحي لهم به .طبعا كان لشخصية بنكيران كظاهرة صوتية  دور مهم في ذلك.

الخلل في النص الذي لم يحدد بوضوح و صرامة حدود تدخل الفاعلين,تعديل 2011 ألغى الفصل19 لكنه لم يلغي هيمنة المؤسسة الملكية.أعطى صلاحيات مهمة لرئيس الحكومة وللبرلمان. لكنه لم يفتح المجال للنخب الحقيقية و المؤهلة فعلا لتنزيله على أرض الواقع. سيناريو البلوكاج كانت غايته العودة بالوضع إلى ما قبل دستور 1996، حيث الملك يسود ويحكم قوس عشرين فبراير ومطالب الدستور المؤسس للملكية البرلمانية لابد أن يغلق. فعلا لقد أغلق بتعيين العثماني بدل بنكيران. أليس هذا تدخلا في الشأن الداخلي لحزب له مؤسساته التي تسير و تقرر؟

الملكية التنفيذية تضر النظام أكثر مما تنفعه.ربما تفيده في سياق و وضعيات محددة لكن على المدى البعيد لا أحد يستطيع ان يتكهن بما يمكن أن يقع.الملك له اعتباره بحكم التاريخ و الجغرافيا وحتى بحكم القانون لكن الدستور و دولة المؤسسات أكثر ضمانة من حاشية لا سند لها سوى سلطاتها المستمدة أصلا من القرب.إصلاح الدستور وتحديد الصلاحيات وتأهيل النخب الوفية للوطن لا للأشخاص, هو المدخل الأسلم لبناء دولة ديمقراطية قوية,  يكون لها موطئ قدم فعلي بين الأمم و ليس على شاشات الإذاعة و التلفزة. الدولة الديمقراطية يبنيها الجميع و يحميها الجميع.

عبدالالاه أبعيصيص