في كل حارة، وفي كل زاوية، وفي كل مكان... يتكتّل الناس ويتراصون رغم أنوفهم، ويتوادون احتجاجا واعتصاما، ويغدون مناضلين، دونما سابق نية أو تصميم.

بين عشية وليلها، ينتصب اللاقط الهوائي، وتحط المُجنزرات العملاقة رحلها، ويستعد الديك الرومي لبناء مستوطنته الكريهة؛ فيترك الناس ما بأيديهم... كل ما بأيديهم، ويهبّون سراعا إلى أقلامهم، يُمضون ويوقعون وينخرطون ـ على عجل ـ في جمعيات خُدّج، ويدبّجون مالا حصر له من اليافطات والعرائض، القصار والطوال. ويطرقون الأبواب المفتوحة والموصدة، والدهاليز السرية التي يخبئها القانون، وتدسّها الإدارة، ويستنفدون رصيد هواتفهم بسخاء لافت.

يتعارف الناس، ويتبادلون التحايا المطمورة منذ زمن بعيد، ويُحيون السلام المفقود، يُحيونه مؤقتا، طالما الأزمة قائمة، لتأتي الصينيات من البيوت تترى، تحمل لذيذ الشاي والطعام.

عندما يهفو القانون، أو حينما يُغمض عينا ويفتح الأخرى، تتسلل الفتنة إلى حاراتنا، وتكاد تنشب الحرب الأهلية بين أبناء الحي الواحد، فيتصارع الأهل، ويُتركون نهبا للتطاحن والطمع والغلبة والأثرة.

في غفلة من الجميع، يسرق أحدهم "الترخيص"، ويأتي به، من حيث لا يعلم أحد، أمرا واقعا، يفرضه على الناس، الذين كان يفرح لفرحهم ويأسى لأساهم، ليبتدع "البدعة" وينطلق الشرخ، وتعم الفوضى، وينشغل الناس ردحا من الزمن، يصارعون من أجل البقاء والعيش الكريم.

يصارعون "أخاهم" الذي أراد أن يُبدع فابتدع، أخوهم ـ وحتى أمس القريب ـ كان جارا لهم، يجالسهم ويتردد على مسجدهم، الذي أصبح بالنسبة إليه ـ منذ اليوم ـ المسجد الحرام.

في هذه الأجواء المشحونة تنهار سياسة المدينة انهيارا فادحا، ويُفلس كل تصميم للتهيئة، ويُترك الناس لأنفسهم ولموازين القوة المُعلنة والخفية.

تُراهن كل طائفة على الزمن والعياء، وعلى الذاكرة القصيرة للأفراد، وعلى ما أوتي كل واحد من قوة وبأس واحتيال.

وحتى والناس أيقاظ، يأتي أحدهم بالتصميم، الذي سيحول حياتهم جحيما أرضيا لا يطاق، يُزلزل سكينتهم، ويدكّ أركان بيوتهم، ويصدع طبلات آذانهم، ويورثهم أدواء عصبية ونفسية، وضغطا شريانيا مزمنا لا يبرأ ولا يزول.

باسم النهضة والعمران والتشييد والبناء، يهدمون حياة بعضهم البعض، وباسم التنمية والمدنية ينصب الناس أعمدة من الإسمنت المتطاول، وأسلاكا متشابكة كبيت العناكب، ويحركون آلات تهدر كالزلزال، تحرك الأرض من تحتهم وتحوطهم روائح توقظ الأموات من مراقدهم.

في جو الشحناء هذا تندلع الحرب الأهلية، في كل زاوية وفي كل ركن، فتُدان المدينة والمدنية، وتغدو أثرا شاهدا على الإفلاس والعشواء، ومكر الليل والنهار، والجهالة العمياء. والنتيجة هذا الركام المملوء بشرا وصديدا، وهذه الرئات "المفشوشة"، وهذه الوجوه الشاحبة المفزوعة، وكأنها تساق إلى حتفها.


 

عبد الحكيم برنوص