قراءة في كتاب "Le sexe et l’effroi" للروائي الفرنسي Pascal Quignard

وكانت النساء يقفن عاريات الصدر خلال المعركة، يشكلن غنيمة الحرب وغنيمة النصر.

لكل إنسان في حميمية بيته قلب قلق يعذب الروح بهمومه الباطلة فلا تجد الراحة.

أبوليوس صاحب "الحمار الذهبي"

ارتبط الجنس بالفزع، كما هو مثبت في الأساطير الإغريقية والرومانية، عند "بسيشه" التي تعبر عن تطهير الروح بفضائل الحب السامي والألم، وهو ما أورده أبوليوس، الكاتب النوميدي من بلاد الأمازيغ بشمال إفريقيا، صاحب أول رواية في التاريخ (الحمار الذهبي). و"بسيشه" هي إحدى بطلات هذه الرواية. وعرف الفزع الجنسي أيضا في هذه المجتمعات بـ"شهوة مقلقة" أو "شهوة مرعبة"، فكانوا يهوون الانتعاظ، أي الشبق والشهوانية، لما تحققه من متعة فائقة؛ فقد شكلت المدينة والبحر والجسد والحقل والحرب ونتاج البشر وحدة متكاملة لا يفصل بينها شيء داخل المجتمعين اليوناني والروماني، يتهددها خطر محدق واحد هو العقم، أي عدم الإخصاب، وبالتالي عدم التكاثر، لأن مخاوف الرومان ظلت قائمة أمام عجزهم عن تفسير تحول القضيب بين حالة الانتصاب إلى رخو بعد نهاية فعل الجماع، ما ظل يثير مخاوفهم وقلقهم، وبالتالي، فزعهم، لأن الرجل نفسه يقف عاجزا أمام هذا الوضع؛ إنها متعة حيوانية تبتلع فحولته، ما جعل المجتمع الروماني يدخل في دوامة الشعوذة والتطير والتعزيم بمنحوتات صغيرة قضيبية "حرزية" لإبعاد العين الشريرة.

وانتشر استعمال الحرز على شكل قضيب منتصب عند اليونان بشكل خاص لاتقاء العين الشريرة وإقامة "الطقس التهكمي" لإرجاع مفعول الشر والحسد ... وتظهر القليل من اللوحات صدر المرأة عاريا... في رواية "الحمار الذهبي" لـ"أبوليوس"، تنظر "فوتيس" لـ"لوسيوس"، فتلمح عضوه منتصبا خلف ردائه، فتخلع ثيابها وتعتليه مخفية فرجها وهي تقول: "اضرب حتى الموت من وجب عليه الموت"، في دلالة على الاهتمام الكبير بالحياة الجنسية والحرص على لحظة المتعة ومصدرها. وكانوا يشبهون السائل المنوي بزبد البحر، فأساس الجنسانية عند الرومان منوي ...

خرجت أفروديت من البحر، كما تحكي الأسطورة، فقد ولدت من غير جماع، إذ قام كرونوس بقطع الأعضاء التناسلية لأورانوس ورمى بها في البحر لتخرج أفروديت من وسط زبد الموج. أما الدم فرمز للحروب والاقتتال، لهذا استحوذت الشهوة الجنسية على حياة الرومان، تلك اللذة التي يبحث الرجل من خلالها عن جسد آخر لإراقتها، ولا يهم إن كان هذا الجسد لصبي أو امرأة.

اختزل الرومان الحب في الخوف والقلق الذي يجب طرده، وتفريغه سائلا منويا في جسد آخر من أجل تجنب الإخفاق، فهناك دائما شوق أخرس، إنه ذلك السائل المنوي الذي يتدفق في شرايين الرجل المحارب ليتحول إلى قوة تتوهج بإراقة دماء الخصم كما يتدفق السائل المنوي لإشباع الرغبة أو الإخصاب ... هذا هو مفهومهم للحب، فلا يجوز التفكير في من نحب أو الشوق إليه، أو في غيابه عنا، أو استحضار صورته، لأن كل ما يغذي الحب منبوذ، سوى الرغبة، فلا مجال للحب الوحيد المتسلط الذي يتسبب في الألم، إذ يجب تفريغ ما بداخل الجسد عبر خروج الحيوان المنوي للتخلص من كل تلك الحرقة المتجددة، فالهروب من الحب يحقق لذة أكبر.

البحر مثانة الطبيعة

يعرف أرسطو العضو الذكري بأنه الشيء الذي يزداد حجمه ويصغر، في كتابه عن أعضاء الحيوانات. وميتامورفوزيس هو الرغبة المذكَرة. وفي اليونانية، كلمة Physis تعني الطبيعة وتعني قضيب، وكلمة أغسطس تعني الزيادة والنماء، ومنها أخذ الإمبراطور أغسطس هذه التسمية، ليتخذ منها وظيفته ورتبته الاجتماعية، أي إنه يُكثِر ويُنَمي. ويرى الفلاسفة الرواقيون أن العقل الأول المنوي هو من يتحكم في العالم، فالعالم حيوان كبير. أما أفلاطون، في كتاب "Menexeme"، فيصرح بأن المرأة هي التي تقلد الأرض في الحمل والوضع، والعكس غير صحيح، فـ"النجوم عيون حاملة للضوء، رصعت في وجه الكون، وبقوة قلب تضخ الشمس الضوء بمثابة دم في كل مكان، البحر هو مثانة الطبيعة، والقمر هو الكبد الكئيب للطبيعة" (بلوتارك عن لامبرياس في كتاب "De Facie").

هكذا غرق كل من اليونان والرومان في حياة امتزجت فيها الأسطورة بالواقع، فجعلوا لكل جانب من حياتهم إلها، فتعددت الآلهة التي نسجوها من سديم خيالهم، لتشكل عوالم خاصة تحيل على سؤال كبير هو سؤال الوجود، وما التركيز على الحياة الجنسية إلا ضرب من هذا البحث الذي دعاهم إلى تفسير انتصاراتهم في الحروب وتوسيع رقعة إمبراطورتهم وتعدد الزوجات والخليلات وتمجيد العضو الذكري للرجل، وتفشي الفحش الجنسي في الأقوال والأفعال والمثلية والسحاقية.

حياة مزدحمة بالآلهة

يسترسل باسكال كيغنارفي سرد العديد من التفاصيل عن هذه الآلهة كما صورتها الحضارتان، اليونانية والرومانية، وبعيدا عن اعتقادهم بها وجعلها أساس حياتهم اليومية، يشد القارئ سعة الخيال البشري الذي حبك هذه الأساطير وأنزلها إلى الواقع ليعيش الفارس اليوناني والروماني وفق اختياراته هذه ويبني صرح حضارة حكمت العالم لردح من الزمن. ومن هذه الحكايات نذكر حكاية "بوبون" مع "ديميترا" التي فقدت ابنتها، فامتنعت عن أي أكل أو شرب أو كلام وخرجت هائمة على وجهها تبحث عنها، لكن بوبون أصرت على تكسير صيام ديميترا، إذ شمرت عن ردائها لتكشف عن عضوها التناسلي، فضحكت ديميترا وتناولت طعاما... وبوبون هي كاهنة. استعمل اليونان هذه التسمية على العضو التناسلي الذكري، وبوبون كلمة تعني الوجه/العانة، يجمع بين الابتسامة والخوف. فالكاهنة بوبون أعادت للأرض ثمارها بفعلها هذا، حسب الأسطورة، فعملية شمر الرداء عن العضو التناسلي بين امرأة وأخرى يثر الضحك، هو مشهد هزلي، بمعنى أنه قد عاد الافتتان ونبات الأزهار والحبوب. وفي عام 1898 عثر عالمان ألمانيان على عدد كبير من المنحوتات للعضو التناسلي للكاهنة "بوبون" عند مصب نهر مياندرفي بريين مقابل ساموس. كما أظهر علماء الآثار أن ديكور ثياب الرومان يخضع لمعياري الحرب والحب، فكلاهما مصدر خوف وعنف، إذ لا بد من تفريخ وإخراج مكنون ما بداخل الجسد، لأن الحب هنا، كما أسلفنا، ينبني على الافتتان والشغف والرغبة الجنسية الجامحة، وليس الحب في بعده الإنساني بما يحفل به من مشاعر متبادلة بين قلبين، بل بين جسدين، تلك الرغبة التي يمارسها جسد الأنثى على جسد الرجال، فيلجأ الرجل للاختطاف العنيف أو بالافتتان، وكلاهما يؤدي إلى الخوف.

ويرجع علماء الطبيعة رقصات الحيوانات قبل التزاوج إلى عامل الخوف والفزع من خوض معركة الجنس، ونداء بعد إيحاءات؛ فهي تمارس طقس الرقص للتخلص من خوفها. والإغواء إنما هو سلوك تخويف أُخضع لطقوس بها الكثير من الجمال، فجعلت روما حياتها، على مستوى الملاعب والحلبات والمسارح والعمارة والفن والانتصارات، خاضعة لطقس التخويف الذي يصيب الإنسان بسبب الفتور وفقدان الإحساس، لأن هذا ما ظل يثير فزعهم.

يمكن حصر الفزع الجنسي بين فتيات صغيرات حديثات العهد، أما النساء المتقدمات في السن، أي اللواتي تجاوزن سن 35، وجربن الرغبة الأولى والخوف، فقد اكتسبن من التجربة ما يجعلهن مؤهلات لتحقيق الرغبة المنشودة عند الرجل، ليس كل الرجال. وتظهر المرأة غُنْجاً، أي تهتكا ودلالا. والغنج بهذا المعنى تسعى المرأة من ورائه أن تبقى مرغوبة إلى ما لا نهاية، أو أطول مدة ممكنة، فنجد العديد من الرموز التي تعني الأيروسية، منها الرداء الذي يحجب العضو الجنسي والرباط الذي يغطي النهدين، والمداس (الأحذية) التي تحجب القدمين، وهي مناطق للإغواء والإثارة. وكانت النساء يقفن عاريات الصدر خلال المعركة، يشكلن غنيمة الحرب وغنيمة النصر. كما كانت النساء، الزوجات والأمهات، يرفعن الرداء عن فروجهن لتحفيز وشد عزيمة الأزواج والأبناء أثناء المعركة. وكانت النساء الجرمانيات يعرين نهودهن خلال المعركة أمام أزواجهن وأبنائهن، لإخافتهن من الهزيمة التي ستتسبب في سبيهن؛ وبالتالي لا بد من الانتصار لتفادي أسر وسبي زوجاتهم. وعادة العري هذه استعملها الفرس كذلك خلال المعارك، حيث كانت النساء يكشفن عن أقدامهن وعن المناطق الفاحشة في أجسادهن. ويبقى فعل العري يحمل أكثر من دلالة بين هذه الشعوب، لما للأعضاء الجنسية من تأثير على حياة الفرد والجماعة، وهو المشهد الذي يتكرر في العديد من اللوحات الفنية الرومانية.. وإزاحة الرداء عن الأعضاء الفاحشة تكسير للصمت وكشف للحقيقة.

المتعة والسرير وعتمة الليل

تقوم المتعة الحقيقة ليلا، حيث الافتتان بالجسد، بين الذكر والأنثى، فيتوسل العشيق إشعال فتيل أو شمعة ليستمتع بتفاصيل الجسد، فطلب الضوء يعني كشف الجسد، وممارسة الحب في الظلام مثل العميان، حيث يتبادلان الكلمات، مثل الحرب؛ فالمعارك الحقيقية تدور بالليل، والانتصارات يدركها النهار لتشرق شمس يوم جديد... وكان النبلاء الرومان يضطجعون لتناول الطعام، أما الزوجات فيجلسن بعيدا في مقاعد خاصة بمراتبهن الاجتماعية، بمعنى أن دور المرأة يبقى في مرتبة دون مكانة الرجل.

يشكل عدم الارتواء وتحقيق السعادة عبر ممارسة الحب بين العشيقين حالة اضطراب ويأس عند الطرفين، وهو الأمر الذي قد يدفع للخيانة. ويظهر الفرط الجنسي الذي يلحق تشوها بجسد الذكر، فيشعر صاحبها بالخجل، لأنه ظل يبحث عن تحقيق الليبيدو. لكن أكثر ما يزعج المرأة هو عجز العضو الذكري حين يبقى رخوا لحظة الإشباع، وهو أمر لا تفسير له عند العشيقين، فتنطلق للبحث عن متعة أشد صلابة. وقد انطبعت حياة الرومان بهذه الثقافة الجنسية لتنصهر في بوثقتها فنون الحرب والمسرح والرسم ... وقد كان للأسطورة دور أساس في تأطير الحياة العامة، فبرز عدد من الكتاب، منهم، تاتيوسوكايوسوأبوليوسوباترينيوسوأوفيدوهوراسوفرجيل ...تناول عدد منهم الحياة الجنسية بالكثير من التفصيل والهيروتيكا وشيشرون، مجسدين نظرة الشعبين اليوناني والروماني للحب كمتعة وافتتان وطقوس ممارسة الحب والزواج، ما يكشف عن وضع المرأة ومرتبتها الاجتماعية.

البيت الروماني كتاب وذاكرة

اهتم الرومان كثيرا بحفظ الذاكرة، وتنميتها، فتجلى هذا الاهتمام عبر رسم الجداريات والتفنن في إبداعها، وإنشاء المسارح الكبرى، وقاعات العرض وحلبات المصارعة، ثم الاهتمام بالتأليف الملحمي لتدوين تاريخ الإمبراطورية. وأعتقد أن توظيف الأسطورة يغري بالإقبال على المنتوج الأدبي الإغريقي والروماني، وبالتالي فهذه الشعوب كانت على وعي تام بضرورة حفظ حضارتها، ومن ثم تراثها وثقافتها التي لا تزال ملهمة للعديد من المبدعين في مجال السينما والأدب عامة والعلوم، وحافزا للبحث وإنجاز الدراسات ... من هنا، اجتهد الرومان في تطوير الذاكرة، من التذكر، من خلال استخدام عدد من التقنيات، فيقوم الفرد بحفظ تراجيديا بكامل أبياتها، مثل "سينيكا الأب" الذي كان أكبر حافظ في عصره، وعاش خلال عهد الإمبراطور أغسطس، فقد حفظ تراجيديا سمعها منذ زمن ديكتاتورية قيصر ... وكانت الجداريات والبيوت والحدائق تقنيات تستخدم ككتب ذاكرة، فدخول بيت روماني يعني دخول صفحة كتاب وصفحة ذاكرة. فمن خلال الصور نستعيد الذاكرة ونرتب محطاتها، فالصورة رسالة. وشيشرون (106ق.م/43ق.م)، صاحب كتاب "هورتانسيون"، الباحث والخطيب المتميز، وكتاباته بحث في الحقيقة والسعادة، تأثر بآراء أفلاطون وأرسطو، وآمن بالمدينة الفاضلة، وكان يحفظ خطاباته بمجرد النظر إلى جدران بيته، يؤكد أن الأشياء التي نتذكرها جيدا هي الأشياء المخجلة، لذلك يستحسن استخدام الأشياء الشهوانية لتنمية الذاكرة...

اهتم الفلاسفة اليونان بالمجتمع المدني، ووقفوا عند القلق الذي ينتاب الناس بشكل يومي، بسبب عنف الرغبة، فالعنف أمر خارجي والقلق داخلي؛ فزعم كل من الرواقيين والكلبيين والفيثاغوريين وفلاسفة الشك وأتباع الديانات الحديثة انفصالهم عن هذا القلق وعن هذه الرغبة، وأعلنوا غربتهم عن هذه الرغبة. وجاءت نظرية أبيقور في ق3م لتلعب نفس الدور الذي لعبته نظرية فرويد في ق20م، أي إن الإنسان الذي لا يستمتع يصنع المرض الذي يضنيه، وأن القلق ما هو إلا ذلك الدافع الجنسي الذي ينقلب على نفسه ليدمر صاحبه. يرى أبيقور أن "لكل إنسان في حميمية بيته قلبا قلقا يعذب الروح بهمومه الباطلة فلا تجد الراحة"(كتاب طبيعة الأشياء. ج6). والجسد هو السبيل للنجاة. ويرى ديموقريطس أن "الجماع سكتة دماغية صغيرة، لأن إنسانا يخرج من إنسان مقتلعا نفسه منه، كأنه ينفصل عنه بضربة"، عكس ما يراه أبيقور، كون الجسد منبع جميع المتع، حيث يتوحد مع الروح، إنها تجربة المتعة ...

الهوامش:

- اعتمدنا في تقديم هذه القراءة على النسختين الفرنسية والعربية للكتاب.

- الكتاب،يقع الكتاب في 355 صفحة من الحجم المتوسط، صدر سنة 1996 عن Gallimard، يتوزع بين 16 فصلا، ترجمة روز مخلوف إلى العربية سنة 2017، في 239 صفحة، تحت عنوان "الجنس والفزع"، عن دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق.


 

محمد حماس