دأبت مدينة برشلونة على تنظيم أنشطة ثقافية تهم المهاجرين المقيمين بكطالونيا، قصد التعريف بثقافاتهم في إطار التنوع والتعدد الثقافيين؛ فأبرز ما لوحظ في أحد الأنشطة السابقة هو الاهتمام الكبير الذي حظيت به الثقافة الصحراوية ممثلة في حضور جمعيات ثقافية منتمية إلى البوليساريو، حيث خصص لها مجال أوسع بكثير من المجالات التي خصصت لباقي الجمعيات. فكان ذلك مناسبة للتعريف بمكونات الثقافة الصحراوية وخصوصياتها انطلاقا من نصب خيمة بدوية إلى تحضير الشاي الصحراوي وإبراز معالم ثقافية أخرى؛ لكن الغريب في الأمر هو أن المناسبة تجاوزت جانبها الثقافي واكتست طابعا سياسيا عندما نُظمت ندوة نشطتها أطر من بوليساريو استغلوا توافد المهتمين بثقافات العالم للترويج لقضية وهمية . فلمّا كنت من أولئك المهتمّين، فجأة وجدت نفسي ألج مكان الندوة المكتظ بالحاضرين، فبقيت واقفا أستمع باهتمام لمداخلات المشاركين وتعليقات وأسئلة الحاضرين إلى أن طلبت الميكروفون لطرح السؤالين التاليين على محاضري بوليساريو: بماذا تفسّرون عودة أطر سامية في بوليساريو إلى المملكة المغربية؟ هل تمتلك بوليساريو من المقومات ما يجعلها قادرة على بناء دولة قائمة بذاتها؟ ما إن سمع المحاضرون السؤالين حتى استشاطوا غضبا، وارتبكوا، ولم يدروا على أي سِؤال يجيبون لأنهم وعوا خطورة السؤالين، بل لم يجرؤوا حتى على النّظر إليّ، فاكتفوا بالتعبير عن توقهم إلى تأسيس دولة يسوسها رجال يؤمنون بدمقرطة الحياة السياسية.

في اليوم التالي وبينما أنا أتحدث إلى مواطن مغربي في متجره، إذا برجل أسمر لون البشرة يقترب من عتبة المتجر ثم يفاجئني قائلا: "أنا أعرفك". قلت له: "كيف تعرفني وأنا شخصيا لا أعرفك؟" .حينها، رد علي: "ألست أنت الذي طرحت السؤالين على ممثلي بوليساريو في ندوة أمس؟". أجبته بصراحة: "نعم، أنا الذي طرحت السؤالين". شككت في أمر الرجل وخلته جاسوسا يرصد خطواتي لمعرفة من أكون، خاصة أن السؤالين اللذين طرحتهما في الندوة كانا محرجين للغاية. فأنا لم أكن صحافيا أو سياسيا منتميا إلى حزب معيّن، بل كنت مجرّد طالب مغربيّ دفعته غيرته على قضايا بلده إلى الإسهام، ولو بسؤالين، في لجم أفواه كل من تُسوّل لهم أنفسهم التطاول على وحدة بلادنا الترابية. بعدئذ، واصل الرجل حديثه معي محاولا إقناعي بأنهم ظلموا وأخرجوا من ديارهم، واستضعفوا واستصغروا لكونهم رعاة لم يؤتوا قوة ولا عُدّة، وذلك، حسب زعمه، ليس بسبب الشعب المغربي، بل بسبب ساسته. تركته يتحدث والابتسامة لا تفارق مُحيّاه إلى أن سألته عن أسرى الحرب المغاربة الذين كانوا معتقلين عند بوليساريو، وبالضبط عن قريب لي كان ضابطا شابّا في الجيش الملكي أسر وهو يذود عن الصحراء المغربية. والعجيب في الأمر هو أنني بمجرد ما ذكرت له اسم قريبي العائلي حتى قال لي اسمه الشخصي، ثم أسرّ لي أنه كان يعرفه جيّدا في زمن اعتقاله بتندوف. فقبل أن ينصرف الرّجل، صارحني بأنه لم يكن سوى مندوب بوليساريو ببرشلونة. حينئذ، أعطاني نسخة من بطاقة الزيارة ثم غادر المتجر متأبطا مقتنياته.

أمّا حاليّا، فقد خسرت جبهة بوليساريو أصواتا سياسيّة وجمعوية كثيرة في كطالونيا كانت تساندها وتدعم قضيتها الوهمية بسبب ضمّ صوتها إلى صوت الحكومة الإسبانية المركزية بعد موافقة برلمان كطالونيا، قبل بضعة أشهر، على استقلال الإقليم عن إسبانيا عبر إعلان أحادي الطرف دفع الحكومة الإسبانية إلى تفعيل مقتضيات الدستور لكبح جماح الاستقلاليين الكطلانيين، خاصة المنتمين إلى حزب اليسار الجمهوري الكطلاني الذي كان دائما متفانيا في دعم بوليساريو. وكل ذلك يخدم جمعيات الجالية المغربية بكطالونيا المطالبة الآن بتكثيف وجودها عبر تسجيل حضورها في مختلف التظاهرات الثقافية، لكن شريطة أن يكون ذلك بالتنسيق مع الهيئات الدبلوماسية والقنصلية المغربية مُمثلة بالمشرفين على الشؤون الثقافية والإعلامية إمّا ببرمجة دورات تكوينية أو باقتراح موضوعات مرتبطة بوحدة المغرب الترابية، بل حتى باستقدام أكاديميين ومؤرخين وإعلاميين لإلقاء محاضرات والمشاركة في ندوات حول الصحراء المغربية؛ لأن هنالك من يجهلون تاريخ المغرب وعلاقته بصحرائه، لكن إن وجدوا من ينوّرون عقولهم ويغيّرون أفكارهم، فحتما سيتمّ تقزيم حضور بوليساريو على المستوى الدولي، وخير دليل على ذلك هو سحب دول كثيرة اعترافها بالكيان الوهمي. وفي السياق نفسه، لا بدّ من استضافة كل أجنبي ينصف قضيّة الصّحراء المغربية، سواء أكان مجال اهتمامه واشتغاله إعلاميا أم سياسيّا أم فكريا أم دينيا. وهنا يستحضر تصريح أحد علماء دولة مالي لإحدى القنوات التلفزيونية المغربية في أثناء جولة ملكية ببعض دول إفريقيا، حيث قال: "مالي هو امتداد تاريخي وديني وثقافي للمغرب، وإن شئت حتى جغرافي". فهذا التصريح، وإن جاء على لسان عالم دين إفريقي، فإنه يحمل دلالات كثيرة ومنصفة لمغربية الصحراء لأن عبارة "وإن شئت حتّى جغرافي" تشير إلى طول وعرض خريطة المغرب الجغرافية في زمن صال فيه المغاربة وجالوا في مختلف بقاع إفريقيا إما طالبي وناشري علم أو رحالة أو تجارا. فهذا ما يجب أن يستثمره المدافعون عن ملف الصحراء المغربية في المحافل الدولية، وفي المؤتمرات العالمية، بل حتى في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، خاصة ونحن في عصر رقمي المعلوماتُ فيه مرقمنة والحصول عليها ميسّر.

وبالتالي، لا مفرّ من تكثيف المجهودات وشحذ الهمم وإخلاص النية للذود عن صحراء مغربية فسيحة وشاسعة عبر شتّى أنواع الدبلوماسيات، سواء أكانت برلمانية أم اقتصادية أم دينية أم ثقافية؛ مثل الندوة الدولية التي نظمتها جامعة محمد الأول بوجدة في الأسبوع الأول من شهر أبريل الجاري، وتحت عنوان: "الدبلوماسية الثقافية وتحديات الوحدة الإفريقية"، حيث شارك فيها أفارقة ومغاربيّون كانوا منصفين في عروضهم ومداخلاتهم للمغرب من حيث حضوره التاريخي والحضاري في إفريقيا. وكل ذلك تزامنا مع استفزازات بوليساريو للمغرب عبر ما أقدمت عليه مؤخرا من إقامة مخيّمات بالمنطقة العازلة.

الحسن حراك

* أستاذ جامعي