بعد ردح من الزمن، اتضح أن سفينة المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين التائهة لم ترسُ على نمط من الاشتغال يوقف ارتجالية تؤثر على مهام التكوين والبحث. فانطلاقا من بداية الموسم التكويني 2015 ـ 2016 ظهرت حركية، استطاعت بمجرد إلقاء حصى صغيرة في بركة التكوين أن تنجز تفاعلات تتجدد. وقد أبرز المخاض حينها ثلاثة مشاريع تنظيمية، لكل واحد منها تكلفة. فما المسارات الثلاثة؟ وما آفاق وتكاليف كل خيار منها؟.

ـ أفرز التداول غير المنتظم مقترح الإبقاء على المراكز الجهوية ضمن وزارة التربية الوطنية، وإعادة أنشطتها كلية إلى حظيرة المديريات الجهوية للتربية والتكوين؛

ـ أما الخيار الثاني فتمثل في طموح استكمال الارتقاء بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين إلى مرتبة مؤسسات التعليم العالي غير التابعة للجامعة؛

ـ فيما ارتأى نفر مقدر ـ في إطار النحو الثالث ـ إلحاق المراكز الجهوية بالجامعة.

ولأن الخيار الأول لم تلمس فيه جميع الفئات العاملة بالمراكز الجهوية طموحاتها، فقد استبعد، ولم يدبج بمرافعة؛ فالأساتذة الباحثون لن يجدوا في ذلك أجواء، تساعد على خلق بنيات البحث اللازمة للترقي المادي والاجتماعي والعلمي. كما أن باقي الفئات لم تفضل فقدان المراكز استقلاليتها المحدودة شريطة استمرار امتيازات قد تفتقد في حال الاشتغال تحت المديريات.

الخيار الثاني تحمست له فئة عريضة أسوة بالمدارس العليا للأساتذة، التي استطاعت الاندماج في أجواء التعليم العالي بمختلف بنياته وشروطه... مما قوى الظن في سهولة استنساخ التجربة بالمراكز، لكن خارج الجامعة ودون التحليق خارج عش التربية الوطنية.

إن فاتورة الخيار الثاني غالية، وتستلزم تكاليف جسام، يستوجبها ارساء نظام الوحدات والفصول. ذلك أن تجربة المدارس العليا للأساتذة لم تخضها لوحدها، وإنما خاضتها فئة الأساتذة الباحثين في إطار الجامعة، وتحت إشرافها وفي خضم إرادة ووفق مشروع وزارة التعليم العالي، قضى فيه الأساتذة الجامعيون عقودا من التأمل؛ إذ لم يكن منحة بلا عرق، ولا وليد لحظة وضع الميثاق الوطني للتربية والتكوين.

ذلك أن معظم من شيد الإصلاح على أكتافهم هم خريجو نظام الوحدات والفصول، ومنهم من زاول العمل في إطاره بالخارج، وتمرس على هندسته وشارك في تكوينات بيداغوجية... جعلتهم، بما فيهم العاملون بالمدارس العليا للأساتذة، يندمجون بسلاسة في نظام LMD، سهرت وزارة التعليم العالي على إيقاعات انضاجه على ما يربو عقدين من الزمن.

لذا، فإن من يفضل الإقدام على القبول بوضعية مؤسسة للتعليم العالي غير تابعة للجامعة ينبغي أن يعلن نفسه ـ ما تبقى من حياته المهنية ـ مناضلا من أجل تشييد خيار الاستقلالية؛ إذ لا يمكن للإرساء الحقيقي أن يتم خارج 12 سنة على الأقل، تتم كرونولوجيا وفق غلاف زمني يمكن تقريب أنشطته على المقاس الآتي:

ـ بعد سنوات من النقاش الرسمي الطويل وإعلان انتزاع المراكز موقع مؤسسات للتعليم العالي، ستنكب لجان مركزية موضوعاتية على إرساء الترسانة القانونية، ورصد الميزانيات وهيكلة الشعب والمسالك ومضاعفة الموارد البشرية وإيجاد ما يكفي من البنايات... يمكن أن تنطلق عملية بناء الفصول.

ـ السنة 1 : تداول مشروع الإصلاح وتشكيل اللجان الموضوعاتية واستيعاب المشروع العام للمراكز في حلته الجديدة.

ـ السنة 2: وضع الأوراق الوصفية لبرنامج الأسدس الأول والأسدس الثاني مع مزاولة العمل بالعدة الحالية.

ـ السنة 3: الانطلاق في تنزيل برنامج الأسدس الأول والأسدس الثاني بمجزوءاتهما وتقويماتهما، وخلالها يتم الانكباب المكثف على بلورة الأوراق الوصفية للتكوين بالفصلين الثالث والرابع مع مزاولة تأطير الفصلين الأول والثاني.

ـ السنة 4: تقييم الأسدسين الأول والثاني وتنزيل الأسدسين الثالث والرابع والسعي خلالها إلى بلورة مشروع الفصلين الخامس والسادس، مع مزاولة تأطير الفصول الأول والثاني والثالث والرابع.

ـ السنة 5: تقييم الأسدسين الثالث والرابع وتنزيل الأسدسين الخامس والسادس.

ـ السنة 6: تقييم المشروع ككل وتدقيق مخرجاته ومدخلاته

ـ السنة 7 : بدء إمكانات الحديث عن الأوراق الوصفية لوحدات الماستر؛ إذ لا يمكن الحديث عن سلك دون استيفاء ما تحته.

ـ السنة 8: وضع طلبات الاعتماد لدى الوزارة،

ـ السنوات 9 ـ 10ـ 11: تلقي أولى اعتمادات دفعات وحدات الماستر، التي قد لا تتجاوز ماستر واحد لتخصص واحد في كل مركز نظرا لضعف التمويل والحاجة إلى الموارد البشرية المؤهلة للتأطير.

ـ السنة 12 : إمكانات الحديث عن الأوراق الوصفية لوحدات الدكتوراه ووضع طلبات الاعتماد لدى الوزارة،

ـ بعد السنة 12 : تلقي أولى اعتمادات دفعات وحدات الدكتوراه التي قد لا تتجاوز وحدة واحدة لتخصص واحد في كل مركز نظرا لضعف التمويل والحاجة إلى الموارد البشرية المؤهلة للتأطير.

بعد الإرساء ـ طيلة غلاف زمني أكبر أو أقل مما تم تصوره ـ، سيتقاعد الأساتذة الباحثون المزاولون حاليا دفعات. أما ما تبقى منهم، فإن حظوظه في الانتماء إلى وحدة الدكتوراه جد ضئيلة؛ نظرا للعدد المحدود من الوحدات، التي قد لا تحتاج إلا إلى عدد قليل من المؤطرين المتطوعين، وفي ظل ميزانيات جد هزيلة نظرا لحداثة التجربة.

لتلك الدواعي يندب إلى تلافي عناء الخيارين الأول والثاني ـ على الخصوص ـ لتكاليفه الباهظة. ومن ثمّ، تظهر للمتبصرين وجاهة التمسك بالسير نحو الخيار الثالث، مع الحرص على تفادي ما من شأنه أن ينعكس سلبا على فئة من الفئات.

يشْخص المسار الثالث معقولا، ويستحق أن يكون قاعدة لتكثيف التفاوض حوله، والترافع في شأنه؛ باعتباره الأيسر تكلفة، والذي يرجح أن تتحقق ضمنه أكبر مكاسب لقطاع التكوين والأساتذة المتدربين والأساتذة المنخرطين في التكوين عموما.

فالورش الثالث يعني الاندماج المباشر في بنية جاهزة وتفعيلها وتقويتها وتطويرها... والانخراط منذ الوهلة الأولى في بنيات البحث؛ إذ يمكن تحقيق عموم مطالب الترقي والبحث، بدل إمضاء 12 في الإرساء، تبدأ بعدها 12 سنة إضافية كمرحلة الاستثمار غير المأمنة في تحقيق المطالب. فهل نختار المسار الأطول والأكثر تكلفة؟

قد تبدو كرونولوجيا الخيار الثاني ـ السالف ذكرها ـ مبالغ في تكلفتها الزمنية وبؤس انعكاساتها الاجتماعية، لكن إن شئتَ الاختصار فإن:

ـ الخيار الأول سيضطر من يتوخى الانخراط في البحث العلمي إلى التسول أمام أبواب الشعب والمختبرات بالكليات.

ـ الخيار الثاني سيعني حرث السراب دون وضع بذرة ولا قطف غلة.

ـ الاختيار الثالث سيعني الالتحاق بركب المدارس العليا للأساتذة، والمضي في التخصص والانتاج التربوي... مع سلاسة تعدد المسارات نحو باقي الشعب والمصالح الادارية داخل الجامعة.

سالم تالحوت

*أستاذ باحث، ديداكتيك الجغرافيا/ المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الدار البيضاء ـ سطات.