تعتبر الدروس الحسنية "من السنن الحميدة التي دأب على إحيائها الملك الراحل الحسن الثاني خلال شهر رمضان الأبرك من كل عام، وكان يترأسها فعليا، وكانت تلقى أمام جلالته برحاب القصر الملكي العامر بالرباط من طرف نخبة من العملاء من داخل المملكة، وصفوة من الضيوف أقطاب العلم والفكر الإسلامي الوافدين من شتى بلدان العالم الإسلامي.

وإذا كانت تلقى في حضرة أمير المؤمنين و"الخاصة" من المستشارين والوزراء والسفراء والنخبة العسكرية، فإنها لم تعد، بعد أن غدت تنقل عبر الأقمار الاصطناعية إلى كثير من بقاع العالم، سرا من الأسرار التي لا يعرفها خارج حدود المغرب إلا الخاصة من الناس.

وتعتبر امتدادا طبيعيا لتلك الدروس السلطانية التي دأب سلاطين المغرب على تنظيمها، فمن حيث الشكل نجد خلفاء الدولة الموحدية كانوا يعقدون مجامع علمية يحضرها عدد من كبار علماء المغرب والوافدين عليه وفق ترتيب معلوم، وكان الخليفة هو الذي يفتتح المجلس بمسألة علمية، يلقيها مباشرة أو بواسطة، ثم يعود في النهاية ليتولى بنفسه الختم والدعاء.

وإذا كانت تلك الدروس غير مقتصرة من حيث المضمون على مجال واحد، فإنها ما لبثت فيما بعد أن أصبح الاهتمام فيها منصبا على "صحيح الإمام البخاري" وتحدد الزمن من شهر رمضان خاصة. وفي هذا الصدد، يقول صاحب "فهرس الفهارس"، عبد الحي الكتاني، إن الإمام أبا عبد الله ابن غازي المكناسي، المتوفى سنة 919 هجرية، هو أول من ابتدأ صحيح البخاري في كل شهر رمضان، وبذلك يمكن اعتبار هذا العالم الشهير الذي عاش في ظل الدولة الوطاسية المؤسس لهذه السنة الحميدة، التي سرعان ما انتقلت إلى المجالس السلطانية ابتداء من عهد الدولة السعدية.

ويقول صاحب الاستقصاء عن السلطان السعدي، أحمد المنصور الذهبي: "كان إذا دخل رمضان سرد القاضي وأعيان الفقهاء كل يوم سفرا من نسخة البخاري، وهي عندهم مجزأة على خمسة وثلاثين سفرا، في كل يوم سفر إلا يوم العيد وتاليه، فإذا كان يوم سابع العيد ختم فيه صحيح البخاري، وتهيأ له السلطان أحسن تهييئ".

وعلى المنوال نفسه سار ملوك الدولة العلوية مع اختلافات جزئية فيما يتعلق بالزمن، ما بين الاقتصار على شهر رمضان وحده، أو توزيع ذلك على شهور رجب وشعبان ورمضان، وهو ما كان معمولا به على عهد المغفور لهما محمد الخامس.

وبين البدء والانتهاء يتعاقب على إلقاء الدروس عدد من كبار علماء الإسلام من داخل المغرب وخارجه. وفي السنوات الأولى من اعتلاء الراحل الحسن الثاني عرش المملكة المغربية، ساهم شخصيا في إغناء هذه الدروس بمساهمات قيمة، أبرزت بجلاء ووضوح المكانة العلمية الرفيعة لجلالته، والاهتمام البالغ بالثقافة الإسلامية وآفاقها المستقبلية.

والحسن الثاني، باعتباره ملك العلماء وعالم الملوك، كان من أوائل المشاركين في الدروس الحسنية الرمضانية، حيث ألقى درسا فسر فيه حديث جده النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

كما سبق لأمير المؤمنين الحسن الثاني أن ألقى درسا آخر شرح فيه قول الله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض..."، معتبرا في الدرس الأول حول تغيير المنكر: "أن التغيير باليد يدخل في مفهوم الدولة، الملك والرئيس والوزراء والولاة والقواد، والموظفون كلهم، والقضاة. وأما "بلسانه"، واللسان هنا الإخبار أو الكتابة، عليه أن يكتب إلى عامل الإقليم، أو إلى قاضي القرية، أن يكتب له ويمضي كتابه أو يبلغه بواسطة الهاتف، وهو اللسان، المنكر الذي رآه وشهده وشاهده حتى يمكن للقائمين على الأمر أن يغيروا ذلك المنكر. فإن لم يستطع فبقلبه، بمعنى بخلقه بسيرته، فليكن مواطنا صالحا".

وتعتبر هذه الدروس دررا ترصع جبين المغرب الذي أصبح بفضلها محط أنظار العالم الذي يتتبعها باهتمام وإعجاب كبيرين، حيث صارت المملكة قبلة علماء المسلمين الذين يتطلعون إليها، ويترقبون الدروس الحسنية بكامل الشوق، أولئك العلماء الأعلام من الدعاة والمصلحين الوافدين من جميع الأصقاع، الذين يستنبطون الأحكام، ويذللون الصعاب بالدراسة المعمقة، والبحث العلمي المنهجي السليم.

كما تعتبر فرصة للتذكير بآيات الله وأحاديث نبيه "ص"، وبالتالي الدعوة إلى الإسلام بأسلوب العصر ولغته، وعليه أصبح الكرسي الحسني الإسلامي منبرا عالميا لتلاقح الأفكار من طرف كل المشاركين المدعويين "لحضور جلسات هذه المجالس العلمية ودروسها الحسنية القيمة" الملقاة من كبار علماء المغرب، ورؤساء المجالس العلمية الإقليمية، وعلى رأسهم أعضاء المجلس العلمي الأعلى، وغيرهم من الشخصيات الإسلامية البارزة على الصعيدين العربي والإسلامي وكذلك على المستوى الدولي من سائر القارات والدول والأجناس.

وتختم المجالس العلمية للدروس الحسنية الرمضانية الحديثة وغيرها في ليلة القدر المباركة بحفل ديني مهيب محاط بهالة قدسية، يكون مسك الختام فيها لصاحب الجلالة أمير المؤمنين، الذي يتفضل فيلقي أحيانا كلمة توجيهية سامية يشكر فيها الحضور، وغالبا ما يتخذ جلالته هذه المناسبة فرصة للإعلان عن قرارات ومشاريع هامة في سائر المجالات، ولاسيما الدينية والفكرية والعلمية.

 

عبد الرحمان شحشي


 

*أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بكلية الحقوق – جامعة الحسن الأول بسطات.