قبل لقاء سنغافورة التاريخي لا اعتقد أن الثناء على واحد من نجمي ذلك اللقاء كان يجلب على صاحبه شيئا من التقدير.

غير أن المجنونين فعلا ما لم يكن يقوى على فعله أي عاقل.

كانت الحرب ستقوم في أية لحظة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.

مرات عديدة وضع العالم يده على قلبه في انتظار خطأ ما تنتج عنه كارثة لا يمكن تلافي تداعياتها المأساوية الشاملة.

فالرئيس الكوري الشمالي الشاب كيم جونغ أون عُرف بشخصيته الغامضة التي تتميز بردود أفعال غير متوقعة تنتج عنها قرارات عنيفة غير مسبوقة في تاريخ الأنظمة الشمولية المستبدة.

كانت أخبار الرجل تمزج بين الحقيقة والخيال، بحيث صار من الصعب تمييز ما هو صادق وما هو ملفق من قبل أجهزة دعاية، يهمها تشويه سمعته واظهاره كما لو أنه وحش.

اما الرئيس الأميركي دونالد ترامب فلا يبدو مكترثا بما يقوله الآخرون عن سرعة اتخاذه لقراراته إلى الدرجة التي عجز فيها أفراد فريقه الرئاسي مرات عديدة عن توقع ما يخبئه رأسه من مفاجآت غير سارة.

الرجلان كما صورتهما وسائل الاعلام بالاستناد إلى تصرفاتهما هما من ذلك النوع الانفعالي الذي يمكن أن يتخذ قرارا مصيريا من غير تقدير ما يمكن أن ينتج عنه من أضرار مدمرة.

خُيل إلى الكثيرين أن القوة النووية في كوريا قد وقعت في يد شاب متهور لن تجد الطريق أمامها شائكة في اتجاه الزر النووي.

في المقابل فقد توقع الكثيرون أن يندفع الرئيس الأميركي في خيلائه بحيث يعتبر الشتائم الشخصية مسوغا لشن حرب على كوريا الشمالية التي ستكون مضطرة للانتقال من حالة الردع إلى حالة الهجوم.

كل ذلك وسواه من تهويمات المحللين محاه الرجلان بمصافحتهما الحارة.

لقد صنعا من خلال تلك المصافحة واحدة من أهم لحظات البشرية العاقلة اشراقا. وقد يحلو للبعض اعتبار كيم بطلا لتلك اللحظة، وهو استنتاج ليس في محله، ذلك لأن ترامب كان هو الآخر قد تقدم خطوات عن المكان الذي كان فيه من أجل أن يصنع السلام في شبه الجزيرة الكورية.

ما فعله الرجلان يتخطى حدود الحالة التي هما في اطارها إلى حقيقة أن البشرية قد وصلت إلى مرحلة من النضج والحكمة، صار معها تجاوز الحروب أمرا ممكنا، من غير أن يؤثر ذلك على مصالح الشعوب والدول.

لقد ظهر في الصورة الرئيسان ترامب وكيم وهو ما يجب أن يقع باعتبار الرجلين رمزي بلدين يصنعان السلام. ولكن تلك الصورة الصادمة والمفاجئة لم تكن في حقيقتها إلا من صنع حشود من السياسيين والمحللين الاقتصاديين والعسكريين والتقنيين من كلا البلدين ومن العالم أيضا.

وهو ما لا يعني أن الرجلين كانا مجرد دميتين أو ممثلين. العكس صحيح تماما. فالرجلان اجتهدا من أجل خلق بيئة مناسبة لحوار يقع في منطقة لن يكون فيها الحل العسكري مطروحا.

مجنونا الحرب كما أشيع عنهما كانا في حقيقتهما بطلي سلام.

وهو درس تاريخي صار من الواجب على سياسيي الدول حول العالم أن يتعلموا منه ما يمكن أن ينفعوا به شعوبهم.

فلو لم يكن كيم جونغ أون قد أرسى دعائم ومقومات القوة في بلده لما سعى ترامب وهو زعيم الدولة الأقوى عسكريا في عصرنا إلى لقائه.

ولو لم يكن دونالد ترامب قد وضع خيارات الحرب وخيارات السلم على كفتي ميزان دقيق لتحديد الربح والخسارة لما أظهر ابتهاجه بطلة الزعيم الكوري الشاب التي لم يخالطها الغرور.

هناك انفراج في العلاقات الدولية هو بالضبط واحد من أهم أهداف ذلك اللقاء. وهو ما يجب أن تنظر إليه دولة منبوذة مثل إيران بطريقة إيجابية.

غير أن ترامب لن يجد في إيران مجنونا واحدا بمستوى كيم ليحاوره.

ليس لدى إيران سوى حشود من العصابيين، المعتوهين من محترفي فنون القتل والدمار والمكر والمراوغة وسرقة الوقت الذين يشترون سلامهم المؤقت بلغة الحرب، وهو ما لا يستسيغه رجل أعمال لا يملك الكثير من الوقت الفائض ليبدده مثل ترامب

فاروق يوسف