في الطب النفسي هناك نوع من الهذيان يسمى بالهذيان الجماعي حيث الكل يهذي بنفس الموضوع. ومنذ بداية ظاهرة المقاطعة عند المغاربة وأنا أتتبع ما يقال ويكتب وحتى الأحاديث عند البقال وفي الأسواق وبين الأصدقاء وداخل العائلات. وكلما تقدمت المقاطعة في الزمن كلما ألاحظ أنها تأخذ حجما كبيرا في واقع المغاربة رغم أن هذا الحجم التصوري فارغ من داخله والدليل على هذا،أنه لم يتغير أي شيء في المجتمع والأمور تستمر على نفس نمطيتها كالعادة. والخطير في الأمر أن المقاطعين يعتقدون أن كل المغاربة يشاركون في هذه الحملة وأنهم قد انتصروا على الرأسمالية وأطاحوا بأرباب المواد المستهدفة في حين أنها لا زالت موجودة في محلات البيع و بكميات وفيرة. وهذا الانتصار الهذياني قد أغمر المقاطعين في بحر فرحة كبيرة وهذا بالضبط هي وظيفة الهلوسة.

وهكذا ذكرتني هلوسة المقاطعة بالهلوسة البصرية الجماعية حين شاهد المغاربة في سنة 1953 وجه جلالة السلطان محمد الخامس على وجه القمر بعد نفيه الى جزيرة مدغشقر. ولعل المغاربة لا زالوا يهلوسون منذ ذلك التاريخ الى حد الآن مع تنوع مواضيع الهلوسة وخصوصا أن المصاب بالهلوسة، يكون له اليقين أنه على حق وما يراه أو يسمعه هو حق لا ريب فيه ومن المستحيل إقناعه بوهمية ما يراه.

ما هي وظائف هذه الهلوسة؟

1- رؤية محمد الخامس على وجه القمر

في تلك الآونة كان المغاربة محبطين إلى أقصى درجة في أواخر زمن الحماية الاستعمارية وزاد احباطهم اكثر لما نفي سلطانهم و رمز وحدتهم وأصبحوا يشعورون بِـ"الحكرة". وكانت معنوياتهم في أسوء حال. فهذه الحالة لم يكن من السهل تحملها وهنا جاءت ظاهرة الهلوسة البصرية الجماعية والتي جعلت المغاربة يرون صورة محمد الخامس على سطح القمر لتخفف من آلامهم وتشعرهم بالانتصار على المستعمر وخصوصا أن المغاربة يؤمنون بالخوارق و الكرامات. ولكن هذه الهلوسة الجماعية رغم تأثيرها المعنوي المؤقت لم ترجع ملكهم المحبوب من منفاه و لم تغير من واقع وضعهم شيئا بينما استمر نظام الحماية في ممارسة مهامه لعدة سنوات.

2- المقاطعة

يشعر المغاربة بحالة عامة من الاحباط رغم كل الجهود المبذولة لتغيير مجتمعهم وظروف عيشهم و بناء الديمقراطية ، بل لا يزالون يشعرون بحكرة استعمار من نوع آخر هو الاستعمار الرأسمالي، بحيث وجدوا أنفسهم مشلولي الأيادي. وفي هذه الظروف أتت هلوسة المقاطعة لتلعب وظيفتها للتخفيف من آلام الاحباط و الإيهام بالقدرة على إحراز انتصارات اقتصادية.

من صنع هلوسة المقاطعة؟

الرأسمالية هي صانعة هذه الميكانيزمات بكل آلياتها الضخمة. في 1953 الرأسمالية كانت متجلية في الاستعمار الذي كان يستغل ثروات البلاد وهي التي صنعت هلوسة صورة محمد الخامس في القمر وكانت وراء ترويجها لتترك متنفساً للشعب المغربي حتى لا ينفجر.

إن الرأسمالية الحالية الأكثر تعقيداً هي التي صنعت كذلك هلوسة المقاطعة وقامت بصياغتها بسيناريوهات مختلفة تاركةً المغاربة يتوهمون أنهم قد انتصروا عليها وأن لهم نفوذاً وكلمة مؤثرة في رسم مسار الحياة الاقتصادي وخصوصا لما دخلت على الخط كل الميكانيزمات المفبركة من طرف دواليب الرأسمالية مثل المثقفين والسياسيين وحتى وجوه الاعلام. وأصبحت هلوسة المقاطعة تتكرر مئات المرات في جميع الاجتماعات وعلى جميع منابر الاعلام و وسائل التواصل الاجتماعي ومع التظاهرات اليومية حتى أصبح كل المغاربة مُقاطعين رغم أنهم على استمرار في استهلاكهم للمواد المستهدفة من المقاطعة!



جواد مبروكي