اعتمد المغرب، مباشرة بعد تفجيرات 16 ماي 2003 الإرهابية، مقاربة شاملة لمواجهة التطرف والإرهاب؛ ضمنها المقاربة الدينية، في شقيها الإداري /التنظيمي والعقدي/الإرشادي. فعلى المستوى الإداري، تم وضع هيكلة تنظيمية تشمل المجالس العلمية ووزارة الأوقاف والرابطة المحمدية للعلماء والمعاهد الدينية لتكوين الأئمة والمرشدات، وإنشاء قنوات وإذاعات دينية. وتهدف هذه الهيكلة الإدارية والتنظيمية إلى الارتقاب بأداء الأئمة والخطباء والمرشدات وضبط المراقبة الإدارية للمؤسسات الدينية. وإذا كانت هذه الهيكلة الإدارية واضحة المعالم والأثر، حيث ارتفع عدد المجالس العلمية المحلية ليساوي عدد العمالات والأقاليم وإنشاء عدد من المعاهد ومندوبيات وزارة الأوقاف، فإن فعاليتها في مراقبة الخطاب الديني الذي يروج في المساجد والتوجهات المذهبية للأئمة والخطباء ظل محدودا. أما المستوى العقدي/الإرشادي للمقاربة الدينية، فيشمل تجديد الخطاب الديني وغربلة البرامج والمقررات من آراء التطرف والغلو وفتاوى التكفير وفقه الكراهية والتحريض على القتل انسجاما مع توجيهات الخطاب الملكي أمام أعضاء المجالس العلمية في تطوان بتاريخ 27 شتنبر 2008، حين شدد العزم (على المضي قدما، للارتقاء بالشأن الديني... باعتباره في صلب الإصلاحات الوطنية الحيوية التي نقودها، وفي مقدمتها توفير الأمن الروحي والحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية المغربية، المتميزة بلزوم السنة والجماعة والوسطية والاعتدال والانفتاح والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وما يرتبط بها من مبادئ الإسلام السمحة) . فإلى أي حد نجحت هذه المقاربة في التصدي للخارجين على المذهب الرسمي للمملكة، وكذا تجديد الخطاب الديني بما ينسجم مع المشروع الحداثي الديمقراطي الذي يتبناه الملك والشعب معا؟

إن أية إستراتيجية تقاس بنتائجها لا بمخططاتها. وإستراتيجية هيكلة ومراقبة الحقل الديني في المغرب أثبت قصورها إن لم أقل فشلها، ولعل المؤشرات التالية تسند هذا الاستنتاج :

1 ــ إن عدد الخلايا الإرهابية التي تم تفكيكها وكذا الأنشطة التخريبية التي تم إفشالها منذ 2002 يبين ألا فاعلية لهذه الإستراتيجية. فعلى الرغم من نجاعة المقاربة الأمنية في التصدي للتنظيمات الإرهابية ومخططاتها (تفكيك 183 خلية إلى بداية أكتوبر 2018 وإفشال 361 نشاطا تخريبيا للإرهابيين)، ظلت العناصر الإرهابية نشطة في استقطاب المقاتلين وإرسالهم نحو سوريا والعراق (1666 عنصرا) أو في تجنيد المتطرفين لتنفيذ المخططات الإرهابية أو الالتحاق بمناطق التوتر (اعتقال أكثر من 3129 عنصرا). فالاعتقالات واليقظة الأمنية لم تردع الإرهابيين؛ وهو ما يدل على قوة تأثير العقائد التي يتلقونها وذيوعها وغياب أي جهد فقهي تنويري يحصّن الشباب ويحميهم من الانجراف والانخراط في التنظيمات الإرهابية. فأين هو المجهود المفترض من طرف المجالس العلمية والمساجد والمعاهد والبرامج الإعلامية الدينية؟

2 ــ استمرار شيوخ التطرف في نشر فتاوى التكفير والتحريض على الكراهية والقتل عبر منابر المساجد والمواقع الإلكترونية، دون أن تتصدى لهم المجالس العلمية بالردّ وتسفيه عقائدهم المنحرفة؛

3 ــ إن فتوى المجلس العلمي بقتل المرتد تهدم كل هذه الإستراتيجية وتعطي سندا شرعيا من مؤسسة رسمية للمتطرفين لشرعنة التكفير والقتل والكراهية واللاتسامح. فكيف للمجلس العلمي الأعلى أن يراقب خطب الأئمة والدعاة ويحثهم على نشر قيم التسامح وتعليم الناس عقائد الوسطية والاعتدال وهو نفسه يفتي بقتل المرتد؟ وعن أي تجديد للخطاب الديني يمكن الحديث عنه أو إشاعته في ظل استمرار تشبع المجلس العلمي الأعلى بنفس الموروث الفقهي الذي أنتجته ظروف تاريخية لم تعد قائمة ضدا على قيم المواطنة والحداثة؟

4 ــ إقدام عدد من المخابز في بعض المدن المغربية على إعلان امتناعها عن توفير حلويات الاحتفال بنهاية رأس السنة الميلادية وكذا ذيوع فتاوى تحريم الاحتفال بها أو تبادل التهاني يدل على مدى تغلغل فقه التطرف في المجتمع الذي من المفروض أن يتولى العلماء والفقهاء حمايته وتحصينه ضد الغلو والتعصب وإحياء وإشاعة قيم التسامح والانفتاح التي عُرف بها الشعب المغربي عبر تاريخه .

5 ــ استمرار بعض الإذاعات الخاصة في بث برامج دينية تنشر فتاوى تحرض على العنصرية والكراهية والعنف ضد النساء، دون أن تتدخل وزارة الأوقاف ومجالسها المحلية في ترشيد الخطاب الديني ومنع الأئمة المتطرفين من اعتلاء منابر الخطابة والإفتاء والوعظ والإرشاد؛

6 ــ سبق لشيوخ التطرف وأمراء الإرهاب أن تحدوا المجلس العلمي الأعلى وعموم فقهاء وعلماء المغرب بالإجابة عن عدد من الأسئلة وجهوها إليهم من داخل السجن دون أن يجسر أي منهم أو مجتمعين على الرد أو النقاش، مما يعني أنهم بحاجة إلى من يجدد لهم الخطاب الديني قبل أن يجددوه لغيرهم؛

7 ــ إشادة أعداد من الفيسبوكيين بقتل السائحتين في عملية شمهروش الإرهابية وشماتتهم وتشفيهم فيهما ليس له من دلالة سوى أن التطرف يغزو المجتمع ويمزق نسيجه ويجعله يطبّع مع الإرهاب الهمجي.

لا سبيل إلى وقف هذا الانجراف الخطير نحو التطرف والتطبيع مع الإرهاب إلا بالمواجهة الثقافية الرصينة وبخطاب ديني متشبع بقيم حقوق الإنسان ومنفتح على الثقافة الإنسانية ومكتسباتها الحضارية.

سعيد الكحل