يرسل إليَّ إعلامي على درجة متقدمة من الخبرة والتجربة، بشكل دائم مقاطع فيديو ونصوص مقالات، من حسابه على واتساب في محاولة للفت انتباهي بشأن أهميتها.

هذا الرجل في عقده السابع ودرس في أرقى الجامعات الأوروبية، ونقل خبرته إلى أكثر من دولة عربية وأشرف على تأسيس شركات تلفزيونية كما أنتج عشرات المشاريع الإعلامية، وحقق فيها من النجاح ما يجعله اليوم من بين كبار الرواد.

ببساطة إنه رجل إعلام بامتياز، وفق نظرتنا الأولية، لكن للأسف كل ما يرسله أو بتعبير أدق ما يروج له عبر تطبيق واتساب “ربما يصل إلى العشرات أو المئات غيري” يفتقر إلى الدرس الأول في الإعلام!

فإما أن تكون النصوص المكتوبة مبنية على قصة إخبارية ملفقة، أو لا معنى لها كي تلفت انتباهنا نحن صنّاع الرأي، أو مجرد كلام مكرر يتبجح بالحكمة والألمعية من دون أن يكون قادرا على صناعة فكرة جديدة، أما المقاطع التلفزيونية فيمكن عدها ضمن الجهل المتفشي في الإنتاج التلفزيوني السائد اليوم. مرة تحمس إلى مقطع تلفزيوني عده باهرا والتقاطة واعية ومؤثرة!! وقال: انظر؟

كان المذيع يتحدث بثقة مفرطة عن وجود أكثر من وزير في الحكومة البريطانية من أصول عراقية!! ويندفع شارحا قدرة العقل العراقي على الإنتاج والتميز في دول غربية، فيما الوضع السياسي الرث والمتردي في العراق متصاعد ومستمر بينما أكثر من نصف أعضاء حكومة المنطقة الخضراء يحملون جنسيات غربية.

هذا المذيع يستحق الشفقة عندما يعزو الإنجازات الصحية في حكومة تيريزا ماي إلى وزير صحة بريطاني من أصول عراقية، ويندفع أكثر مما ينبغي بجهل معرفي وهو يشير إلى أن الجامعات البريطانية التي تتبوأ أعلى المراتب في النظام التعليمي العالمي يقف وراءها وزير بريطاني من أصل عراقي.

ليس المذيع وحده من يستحق الشفقة لأنه يتحدث بجهل وثقة فارغة، فـ“أستاذنا” الإعلامي الرائد مشمول بهذه الشفقة وهو يروج لهذا المقطع التلفزيوني بوصفه مادة على درجة من الأهمية علينا التفرغ لمضمونها ولفت انتباه الآخرين إليها!

بطبيعة الحال لا المذيع ولا من روج له عبر واتساب حاولا معرفة أسماء الوزراء في الحكومة البريطانية إن كانوا حقا من أصول عراقية، على الأقل ليكون الحوار مثمرا مع مذيع يتوق إلى أن يشاهده الآلاف على شاشة التلفزيون.

فوزير الصحة البريطاني مات هانكوك ليس عراقيا! وقبله كان جيرمي هانت الذي يشغل وزير الخارجية في الحكومة الحالية، أما وزير التعليم فهو داميان هيندز ليس عراقيا أيضا، بالنسبة إلى ناظم الزهاوي فهو وزير دولة وعضو في البرلمان البريطاني وليس وزيرا.

تلفيق الأكاذيب زهيد الثمن في العصر الرقمي، لكن المذيع التلفزيوني في هذه القصة لا يلفق قصة إخبارية، بقدر ما يتحدث عن قصة لا معنى لها، ويكشف عن جهله بحديث مفرط في الثقة، من دون أن يحاول مساعدة نفسه على المعرفة كخطة بديهية أولى لأي إعلامي، هذا يعني أنه لم تكن الأخبار المزيفة هي كبش الفداء الوحيد عندما نكون نحن الصحافيين مصدرا لأخبار لا نعرف صحتها! فالحديث في الفيديو كان لإعلامي تلفزيوني، فيما ساهم إعلامي آخر في الترويج له.

وهذا ما أكدت عليه دراسات مجموعة التركيز التي أجراها معهد رويترز لدراسة الصحافة، عندما أثبتت أن الناس وضعوا أشياء مختلفة تحت مظلة “الأخبار الكاذبة”.

ذلك ما يطلق عليه خبراء الإعلام اللاعقلانية المستمرة المرتبطة بطبيعة سرعة التفكير وبطئه، للدلالة على تأثرنا بالعشائرية والطائفية والقومية والغرائزية، أكثر من تأثـرنا بالأدلة والمنطق.

تنقل الكاتبة فاي فلام من بلومبيرغ عن عالم النفس الكندي غوردون بينيكوك، أحد مؤلفي دراسة مرتبطة بالتوهم المؤيد لفكرة أن بعض الناس أكثر سذاجة من غيرهم، قوله إنه من الغريب بدرجة طفيفة أن تُنشر دراسة تبرهن على أن الأفراد الأذكياء هم أفضل من حيث عدم تصديق الأمور السخيفة.

وتقول “هذا لا يعني أن الأشخاص الذين يجيدون التقاط الأنباء المزيفة ويحرزون درجات جيدة في اختبار الانعكاس المعرفي هم أكثر ذكاءً من الأشخاص الآخرين”. فسبق أن كتب مايكل شيرمر في كتابه المعنون بـ“لماذا يصدق الناس الأشياء الغريبة؟”، إن الأشخاص الأكثر إبداعاً يمكن أن يتعرضوا لنوع من الأوهام ويعتقدون في بعض الأحيان في علوم التنجيم أو يصدقون بعض نظريات المؤامرة.

ويعترف الكاتب تيم هارفورد من صحيفة فايننشيال تايمز بالذعر الأخلاقي الذي تسببه القصص الملفقة، لكنه لا يرى أنها تشكل في حد ذاتها تهديدا وجوديا للديمقراطية أو الصحافة الحرة.

وبوصفه صحافيا يشعر بالقلق حيال عالم يصدق فيه كثير من الناس الأكاذيب، لكنه يشعر بقلق أكبر حيال عالم يرفض فيه كثير من الناس غريزيا تصديق الحقيقة.

ويصل هارفورد إلى نتيجة مفادها أن الصحافة الحرة تواجه بعض المشكلات الوجودية. لكن الأخبار المزيفة ليست واحدة منها.