مقارنة بأخوتهم في سوريا وإيران وتركيا فإن أكراد العراق يعيشون في نعيم لا مثيل له. وهو ما لا يعترفون به ولا يدخل في مفردات قاموسهم السياسي الذي يستعملونه في التعبير عن مطالبهم في مواجهة حكومة بغداد التي يعرفون أنها أضعف من أن تتخذ قرارات سيادية من نوع "حسم تبعية محافظة كركوك" وهي المحافظة التي يطالبون بضمها إلى اقليمهم.

لا يكتفي زعماء الأكراد بإقامة إقليم كردي بل يعتقدون أن ذلك الإقليم لن يكون كاملا إلا إذا ضمت إليه كركوك والمقصود هنا نفطها. ولقد سبق لأولئك الزعماء أن عبروا عن رأيهم في المسألة عمليا. فضم كركوك يعني الاستقلال عن العراق لانتفاء الحاجة إليه اقتصاديا.

سيُقال دائما إن أكراد العراق محظوظون. ليس الآن فقط بل ومنذ أن بدأ تطبيق الحكم الذاتي في سبعينات القرن الماضي. وهو قول يحتمل الكثير من الجدل غير أن ذلك الجدل لن يصل إلى درجة الانكار.

وكما تبين لاحقا فإن المشكلة لم تكن لدى حكومة بغداد بل لدى الاكراد أنفسهم. 

فهم لا يملكون ميزانا واقعيا لحقوقهم. هناك فكرة خيالية عن دولة قومية تمكنت منهم ولم يتمكنوا من التخلص منها. بالرغم من أنها ليست واقعية على المستوى السياسي. ذلك لأنه ليس هناك ما يلزم أن تكون لكل قومية دولتها.

لقد ورط الأكراد أنفسهم بفكر قومي متشدد حرمهم من التعامل والعصر. وهو ما دفعهم إلى التنكر للتجربة العراقية في سياق الدولة التي احتضنتهم أبناء لها.

لقد تسلم الأكراد في الدولة العراقية مناصب عليا في مختف المراحل. لم تكن هناك مشكلة في أن يكون الموظف كرديا أو أن يكون الكردي موظفا بالرغم من أن الحرب في الشمال كانت مستمرة لم تتوقف إلا لسنوات قليلة. كانت هناك دائما حرب، هدفها الانفصال عن العراق ومع ذلك فإن الأكراد تمتعوا بكل ما يتمتع به المواطن العراقي من حقوق. وفي تاريخ الدولة العراقية ما يؤكد ذلك.

وكما يبدو فإن النموذج العراقي لم يكن يعجب زعماء الأحزاب الكردية.

مقابل ما قدمه العراق ترى ما هو موقف الدول الثلاث الأخرى التي يشكل الأكراد جزءا من تركيبتها السكانية؟

لقد اعتمدت سوريا وتركيا وإيران مبدأ عدم الاعتراف المطلق بالقومية الكردية. وكانت اللغة الكردية دائما جريمة تؤدي بمن يتكلم بها إلى السجن، في حين اعتمد العراق سياسة تعليم العرب اللغة الكردية ذات مرة.

غير أن الحزبيين الأكراد في العراق اتخذوا مواقف غريبة من ذلك النفي.

جلال الطالباني، زعيم الاتحاد الوطني كانت له دائما علاقة متميزة بإيران كما أنه أقام زمنا طويلا في دمشق وكان مقربا من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد.

اما مسعود البرزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني فتربطه علاقة متميزة بتركيا توجها بتعاون اقتصادي، حين قامت تركيا بتسهيل عمليات سرقته للنفط العراقي وعرضه للبيع في السوق العالمية.

في الوقت نفسه فإن تركيا وإيران تتحسسان بطريقة صادمة من أية إشارة إلى الدولة الكردية حتى على صعيد الاسم. أتذكر أن طائرة تركية انزلت قبل سنوات من متنها راكبة لمجرد أن تلك الراكبة كان اسمها "كردستان". حدث ذلك في مطار ستكهولم.

لذلك فإن الدولتين لا تريان مانعا من مطاردة أكرادهما في أي مكان يحلون فيه. وهو ما تفصح عنه إيران من خلال قصفها الدوري للأراضي العراقية، بحجة وجود تنظيمات كردية مسلحة.

اما تركيا فإنها اقامت قواعد دائمة لجيشها في العراق وسوريا من أجل محاربة الأكراد ومنعهم من إقامة أي كيان مستقل على نحو ما يشير إلى وجودهم.

كل هذه المعطيات انما تؤكد أن ما يجري في العراق تتحمل تبعته حكومة بغداد التي سمحت للأكراد من خلال استضعافها أن يذلوا الدولة العراقية من خلال مطالب، تنتقص من مفهوم السيادة الوطنية وهم الذين يتمتعون منذ أكثر من ربع قرن بدولة مستقلة داخل الدولة.

ما كان يجب على زعماء الأحزاب الكردية في العراق أن يفكروا فيه أن ما حصل عليه شعبهم من امتيازات استثنائية داخل حدود الدولة العراقية هو نوع من النعمة التي يجب أن لا يرفسوها حرصا على حياة أجيال كردية قادمة من حقها أن تنعم بالسلام.
عليهم أن يتذكروا أن تركيا مستعدة لمطاردة أكرادها إلى القمر لو أنهم اقاموا دولتهم هناك.