1- قراءة في تعقيدات المرحلة:

عندما يضطرنا القول بتعقيدات المرحلة في ما يخص عملية الانتقال إلى الديمقراطية فليس من باب المبالغة ولا من باب التيئيس. لكن فقط من أجل إدراك ما يمكن أن يحيط من صعوبات بأي مشروع سياسي مجتمعي بديل، يسعى إلى إحقاق الانتقال إلى الديمقراطية..كما أن استيعابنا وفهمنا لطبيعة هذه التعقيدات ما سيجنبنا السقوط في بعض التحليلات التبسيطية للأوضاع، سواء منها التي تقف موقف المنفعل أو بالأحرى المبهر مما يعيشه المجتمع من حراك شعبي والرهان عليه في إحداث عملية التغيير المنشودة، حتى وهو لا يمتلك تصورا مجتمعيا ولا أداة تنظيمية لإنجاز هذه المهام..أو التي تقف موقف الارتهان إلى بعض الأطروحات التي مازالت تراهن في عملية التغيير على بعض القوى والأطراف السياسية التي تأكد بقوة الواقع رفض المجتمع لها، واستنفاد مهامها التاريخية بعد أن تحولت إلى دكاكين سياسية تظهر فقط مع كل موسم انتخابي، أو في حالات أخرى بالنسبة لبعض قوى اليسار إلى مجرد نواد فكرية تسعى إلى النقاوة الإيديولوجية وتتوهم امتلاكها الحقيقة المطلقة، أو أنها لا ترى في حل واقع الأزمة الذاتية لليسار وما يعيشه من تشرذم سوى عملية تركيبية بما تتطلبه من تجميع لكيانات مجزأة، دون أن تكلف نفسها عناء الخوض في معركة إعادة البناء على مختلف المستويات المذهبية والتنظيمية والسياسية.. أو الرهان على بعض الأطراف من داخل الدولة المسماة حداثية التي يبدو أنها فقدت موقعها لصالح القوى المحافظة والأصولية.

بالتالي، ومن أجل الوقوف عند هذه التعقيدات التي تميز واقعنا السياسي الراهن، سيكون لزاما علينا استحضار ثلاثة فاعلين أساسيين في ما نعيشه من مخاض سياسي واجتماعي بكل تعقيداته المرحلية والإستراتيجية

أ/الدولة المخزنية:

بما تشكله من إرث تاريخي يمتد لقرون من الزمن، تأقلمت خلالها مع كل الظروف، واجتازت الكثير من الاختبارات الصعبة، حافظت عبرها على استمرارها ونسجت الكثير من العلاقات الاجتماعية والسياسية، وبنت الكثير من الولاءات باستعمال مختلف الوسائل التي تتراوح بين الترهيب والقوة من أجل إخضاع المجتمع أو من تعتبرهم خارجين عن طاعتها لسيطرتها المطلقة، والترغيب في حالات أخرى باعتماد كل أشكال الريع، وشراء الذمم..كما أن هذه التجربة العريقة للدولة المخزنية هي التي حالت دون سقوطها في الكثير من المحطات التاريخية، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما استشعرت ضعفها فوضعت مصيرها بين يدي القوى الاستعمارية من خلال وثيقة معاهدة الحماية التي كان من بين بنودها حماية العرش والسلطان. ومن أجل ذلك، وفي انسجام تام مع طبيعة النظام السياسي المغربي، انتدبت الدولة الاستعمارية الفرنسية الجنيرال ليوطي، المعروف بموالاته وحنينه لعصر الملكية الفرنسية، مقيما عاما على المغرب لوضع أسس الدولة المغربية الحديثة التي جمع من خلالها بين أعراف الدولة المخزنية ومقتضيات الدولة اليعقوبية؛ وذلك في توليفة هجينة تجمع بين التقليد والحداثة. وكذلك فعلت الدولة المخزنية في مرحلة بدايات الاستقلال عندما استشعرت ضعفها، فاعتمدت هذه الأخيرة على أقطاب الحركة الوطنية المتشبعين بالموروث المخزني من أجل ضمان استمرارها بالشكل التي هي عليه الآن؛ وذلك عندما أجلت هذه الأقطاب التي حضرت إكس لبان النقاش حول المسألة الدستورية إلى حين عودة السلطان من المنفى، واكتفت في مقابل ذلك ببعض الامتيازات السياسية والاقتصادية؛ وهو ما أعطى نفسا جديدا للدولة المخزنية من أجل استعادة عافيتها وإعادة فرض سيطرتها من جديد والتحكم في الشأن السياسي والاقتصادي.. ونتيجة لذلك عمدت في مرحلة لاحقة إلى إقصاء حتى من وقفوا إلى جانبها في مرحلة ضعفها، وذلك من أجل فرض سيادتها على الجميع بعد تنصلها من التوافقات السياسية السابقة التي كانت تحكم علاقة الطرفين؛ بل أكثر من ذلك عمدت إلى هندسة مشهد حزبي وسياسي جديد، خاضع كليا لإملاءاتها، ولا يمن عليها وقوفه معها، ولا يربط مشروعيته بمشروعيتها كما كانت تفعل قوى الحركة الوطنية..وكذلك تفعل الآن بعد أن اشتدت الأزمة واستفحل الفساد بكل أشكاله نتيجة هذا التحكم المطلق في الشأن السياسي والاقتصادي، ووصل المجتمع إلى ما وصل إليه من احتقان يكاد يعصف بالجميع.

وبدل البحث عن مخرجات الحل من خلال تعاقدات سياسية تأخذ بعين الاعتبار المطالب المشروعة للشعب المغربي في الحرية والتنمية والديمقراطية وتضمن الخروج الآمن للمغرب مما هو عليه من أوضاع، عمدت الدول المخزنية من جهة إلى اعتماد الآليات الزجرية والقمعية من أجل إخضاع المجتمع بالقوة لسيطرتها، هذا دون أن تستوعب التحولات الإقليمية والدولية ولا تلك التي شهدها المجتمع المغربي الذي تجاوز مركب الخوف واستفاد مما راكمته شعوب العالم من أشكال جديدة للمقاومة، وكل ما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي من إمكانيات هائلة لنشر المعلومة والتأطير والتعبئة الفردية والجماعية.

إن هذا التمادي في انتهاج نفس المقاربة في الحكم والسلطة منذ الاستقلال إلى الآن، وعدم الأخذ بعين الاعتبار التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي ومحيطنا الإقليمي والدولي، يعكس بما لا يدع مجالا للشك تغول التوجه المخزني الأصولي وهيمنته على مفاصل الدولة على حساب ما يعتبر توجها حداثيا من داخلها، الموروث عن الحقبة الاستعمارية.. كما أن هذا التغول هو ما يفسر تماديه في استعمال الأساليب التقليدية في الحكم من أجل التحكم والإخضاع تحت يافطة استعادة هيبة الدولة. كما أنه ومن أجل ضمان هذه السيطرة التي يبدو أن الأساليب القمعية وحدها لم تعد مجدية لإحقاقها، فإن هذا التوجه المخزني المحافظ لن يتوانى من جهة أخرى في رهن البلاد للوبيات المالية العالمية، ونسج تحالفات مع من يمكن أن يؤمن هذه السيطرة من داخل المجتمع المغربي، حتى وإن كان محسوبا على حركات الإسلام السياسي وتفرعاتها الأصولية، التي تحظى بدورها بدعم مباشر من طرف قوى الرأسمال العالمي، التي تدعمها من أجل تبوء مراكز الحكم والسلطة ما دامت تستطيع ضبط حركة الشارع وضمان الاستقرار اللازم لاستمرار مصالحها الإستراتيجية، ولا تهمها في ذلك مصلحة الشعوب في الحرية والديمقراطية والتنمية.

ب/حركات الإسلام السياسي

لا يختلف اثنان في ما يتعلق بارتباط هذه الحركات منذ نشأتها والى حدود الآن بالأنظمة الرأسمالية الاستعمارية التي رعتها ودعمتها من أجل خلق حالة من عدم الاستقرار داخل الدول والمجتمعات التي تعتبرها مارقة ومناوئة لمصالحها الإستراتيجية. بل أكثر من ذلك، وخلال العشرية الأخيرة، عمدت هذه الدول الاستعمارية إلى توظيف هذه الحركات بتفرعاتها المتطرفة في مشروعها الجديد القائم على خوض الحروب بالوكالة من أجل تفتيت الدول والمجتمعات، وذلك بإذكاء النزاعات والحروب الطائفية والمذهبية بما يتماهى ومفهوم الفوضى الخلاقة.

في السياق نفسه يمكن القول كذلك إن هذه الحركات استفادت كثيرا من رعاية الأنظمة الرجعية لها، خاصة في مرحلة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وذلك من أجل مجابهة ومواجهة مد قوى اليسار التقدمي التي كانت ترى فيها هذه الأنظمة تهديدا لحكمها المطلق، فيما كانت ترى فيها هذه الحركات قوى ملحدة تهدد ثوابت الأمة ومفسدة لأخلاق المجتمع. وهذا ما جعل من هذه القوى التقدمية عدوا مشتركا مستباح دمها، سواء بالاعتقالات أو الاغتيالات التي كانت تشرف عليها الأنظمة السياسية الدكتاتورية تارة أو تلك التي كانت تشرف عليها تلك المجموعات المحسوبة على حركات الإسلام السياسي تارة أخرى، والتي طالت الكثير من الأعلام الفكرية والسياسية المحسوبة على الصف اليساري التقدمي.

لكن الآن، وبعد أن بدأ التعبير بشكل مكشوف عن هذا الدعم من طرف قوى الرأسمال العالمي، يمكن القول إنها هذه الحركات استفادت كثيرا مما تلقته من رعاية مالية وسياسية مباشرة وغير مباشرة منذ نشأتها، سواء من طرف القوى الاستعمارية أو من طرف أنظمة الحكم الرجعية التي تدور في فلكها من خلال غض النظر عن أنشطتها السياسية والدعوية، شريطة توجيهها نحو من تعتبرهم خصومها وأعداءها من القوى المحسوبة على الصف اليساري والديمقراطي. بل ومن أجل اجتثاث منابع الفكر التنويري والتقدمي عمدت هذه الأنظمة إلى إعدام الكثير من المقررات الدراسية والمناهج التعليمية التي اعتبرتها سببا في انتشار الفكر النقدي الرافض للاستبداد والتحكم، في مقابل تغليب المناهج التربوية التي تعتمد النقل وتعدم العقل؛ وهو ما استفادت منه كذلك كثيرا هذه الحركات التي استطاعت مع مرور الوقت تسييد مشروعها الفكري والثقافي وما يمثله من قيم معادية للحداثة والديمقراطية، وذلك بعد أن تحكمت في جل مؤسسات الحقل الديني والتعليمي.

إن واقع هذه الحركات على مستوى المغرب لا يختلف عما هو عليه في عموم العالم الإسلامي والدول العربية، رغم بعض الخصوصيات ذات الصلة بالموروث الثقافي والديني والروحي للمغاربة، الذي كان دوما ينزع إلى الاستقلالية عن المشرق الإسلامي. وكان المغرب يشكل في حد ذاته مدرسة في العلوم الفقهية بفعل الدور الريادي الذي كانت تلعبه جامعة القرويين، إضافة إلى تعدد المدارس الصوفية التي يتميز بها عن باقي الأقطار الإسلامية، وتجذر القوانين العرفية في النسيج الاجتماعي المغربي. كل هذا ساهم في تأخر ظهور هذه الحركات مقارنة بالمشرق العربي، وصعب إلى حد ما انتشار هذه الحركات المتشبعة بالفكر السياسي المشرقي في شقيه الإخواني والوهابي، رغم الدعم والرعاية التي حظيت بها من طرف الدولة المخزنية في مرحلة تاريخية معينة، وعلى الرغم من الدعم الذي حظيت به ولازالت من طرف قوى الرأسمال العالمي، وهو ما جعل كذلك صعودها يتم بطريقة بطيئة بالمقارنة مع مثيلاتها في باقي أقطار العالم الإسلامي؛ ما دفعها إلى وضع إستراتيجية تعتمد القضم المتدرج لمؤسسات الدولة والمجتمع، وذلك بدعمها التكتيكي أولا لمبدأ إمارة المؤمنين، التي أدركت أنه المدخل الرئيسي للولوج إلى مؤسسات الحقل الديني، ما سيسهل من عملية انتشارها، وذلك خلافا لما يعتقده البعض بكونه صمام أمان ضد تغول هذه الحركات ومحجما لاستقوائها.. لكون هذا المبدأ حديث العهد بالدولة المخزنية، يعود في استحداثه إلى بداية الستينيات من القرن الماضي، وليس متأصلا في التجارب السلطانية المتعاقبة على تاريخ المغرب التي كانت دوما مستقلة عن دول الخلافة في المشرق، وما كان يتخللها من صراعات وتطاحنات مذهبية، وكانت قوتها تكمن في ما يختزنه المجتمع المغربي من منظومة أخلاقية وثقافية وروحية خاصة به.. وثانيا العمل والضغط في اتجاه تغيير المناهج التربوية والتعليمية، بما يخدم مشروعها الفكري والسياسي، وذلك إما من داخل ما يتيحه مشاركتها في تدبير الشأن السياسي وترؤسها للحكومة، إضافة إلى تغلغلها في النسيج الجمعوي المدني وتأسيسها للكثير من المؤسسات الخيرية التي تحظى بحصة الأسد من الدعم، خاصة من داخل الجماعات والمجالس الخاضعة لسيطرتها السياسية، أو من خلال ما تضخه من استثمارات خاصة في قطاع التعليم الخصوصي، سواء برأسمال مغربي أو برأسمال التنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين من قطر وتركيا. هذا بالإضافة إلى التشجيع الرسمي الذي تحظى به المدارس القرآنية منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني.. كل هذا جعلها تسيد مشروعها الثقافي والفكري ليطال فئات واسعة من المجتمع المغربي، وتتبوأ بشكل سلس الصدارة في المشهد الحزبي، بما سيؤمن لها الفوز في أي استحقاق انتخابي مستقبلي، نظرا لضعف المشاركة الشعبية في هكذا استحقاقات، في مقابل استقرار قاعدتها الانتخابية التي تعمل على توسيعها باستعمال كل أشكال الريع الديني والاقتصادي.. هذا رغم ما يعتري عملها الحكومي حاليا من فشل، وتمرير الكثير من القوانين والتشريعات المجحفة في حق الشعب المغربي المملات من طرف المؤسسات المالية الدولية.. إلا أنه على الرغم من كل هذا ستظل الفاعل السياسي الأساسي إلى جانب الدولة المخزنية ومصدر أمل بالنسبة لشرائح لا بأس بها من المجتمع المغربي الذي بدا يفقد بعض مقومات مناعته الروحية والدينية التي جعلته ولقرون من الزمن مستعصيا عن كل محاولات الاستلاب والاختراق من طرف قوى التطرف الإسلامي الشرقي. هذا ناهيك عن غياب مشاريع سياسية ديمقراطية بديلة تعيد للمجتمع آماله في مغرب آخر ممكن ومنيع بمقوماته الثقافية والحضارية والروحية.

- المجتمع وما يتخلله من حركية

إذا كانت الدولة المخزنية بتوجهها الأصولي هي المهيمنة بشكل فوقي على الشأن السياسي وعلى المجتمع بما تمتلكه من أدوات قمعية وزجرية، ومن خلال تحكمها في المؤسسات الأمنية والجيش والقضاء، وإلى غير ذلك من أجهزة الدولة، فإن حركات الإسلام السياسي التي تنتهج إستراتيجية القضم التدريجي لم تستطع إلى حدود الساعة ضبط كل حركة الشارع السياسي الذي يشهد الكثير من الاحتجاجات المطلبية الوطنية والمناطقية، رغم دعوتها المكشوفة إلى عدم المشاركة فيها بالنسبة لقواعدها وأنصارها والمتعاطفين معها..أو إلى عدم النزول بكل ثقلها في هذه الاحتجاجات بالنسبة للبعض الآخر من هذه الحركات التي التزمت ما يمكن أن نسميه بعدم التصادم المباشر مع الدولة المخزنية في هذه المرحلة التي ربما ترى أنها لازالت ليست بتلك القوة الجماهيرية التي تؤهلها إلى الدخول في هكذا مواجهة، على الرغم من كونها قوة تؤهلها للفوز في أي استحقاق انتخابي، نظرا للنسبة العالية للمقاطعين لها من الشعب المغربي.. وبالتالي التأني والاستفادة مما يتيحه لها وضعها الحالي من أجل توسيع قاعدتها الشعبية.

إن المجتمع في غالبيته، ومن خلال ما يشهده من حركية منفلتة عن الدولة المخزنية وعن الأحزاب السياسية، بما فيها تلك المحسوبة على حركات الإسلام السياسي، فإنه يؤكد حيويته وتعدده وانعدام ثقته في ما يتم إخراجه من سيناريوهات سياسية، حتى وإن كانت بمشاركة ومباركة حركات الإسلام السياسي، كما يؤكد من خلال ما يبدعه من أشكال نضالية تزاوج بين الاحتجاجات الميدانية وتلك التي توظف من خلالها وسائط التواصل الاجتماعي وإعمال التقنيات الإعلامية الالكترونية الحديثة، أنه لازال في مجمله يختزن مقومات المناعة ضد الاستلاب المخزني وضد محاولات التدجين والاحتواء من طرف حركات الإسلام السياسي.

لكن على الرغم من هذه الممانعة التي تعبر عنها هذه الفئات الواسعة من المجتمع، إلا أنها كذلك تبقى ممانعة هشة، ما دامت تفتقد لرؤيا موحدة، ولمشروع سياسي مجتمعي بديل، قادر على تأطير وتوجيه عملها وتوحيد عملها الميداني من أجل الارتقاء بهذا الحراك الشعبي من مستواه المناطقي المعزول في أقاليم محددة إلى مستواه الجهوي والوطني الذي يمكنه من إحقاق أهدافه المتمثلة في الحق في التنمية والديمقراطية والحق في الحرية والعدالة الاجتماعية..

إذن في غياب امتلاك المجتمع لمشروع سياسي مجتمعي بديل، فرغم ما يتمتع به حاليا من حركية منفلتة، إلا أنها ستبقى حركية هشة وبدون آفاق إستراتيجية سيسهل اختراقها واحتواؤها لاحقا من طرف القوى الأكثر تنظيما وتأثيرا، حتى وإن لم تتوفر هذه القوى على غالبية مجتمعية. وتبقى في هذه الحالة حركات الإسلام السياسي هي الأكثر استعدادا وقدرة على إنجاز هذه المهام عندما تحين ساعة الصفر بالنسبة لها لإنجاز هذه المهمة، خاصة أنها أحجمت في السنوات الأخيرة عن إبراز قدراتها التعبوية وقوتها الميدانية والتنظيمية.

إذن فعلى الرغم مما تظهره هذه الحركية من انفلات في هذه المرحلة عن الدولة ومؤسساتها الوسطية، نتيجة فقدان غالبية الشعب المغربي الثقة فيها، إلا أن المجتمع سيظل مجال تقاطبات دائمة من طرف القوى السياسية الأكثر استعدادا لتأطيره وفق ما تطرحه من مفاهيم فكرية ومشاريع سياسية لا يمكنها أن تتحقق دون توفرها على قاعدة شعبية واسعة وضرورية لتغيير موازين القوى لصالحها، وبالتالي توجيه حركية المجتمع بما يخدم أهدافها الإستراتيجية. وفي وضعنا السياسي الحالي، الذي من خصائصه البينة انحصار شبه كلي للمشروع الديمقراطي الحداثي، في مقابل تغول الدولة المخزنية التي أصبحت في مواجهة مباشرة مع المجتمع، وتعمل جاهدة من أجل إخضاعه، رغم ما يبديه هذا الأخير من ممانعة وتجديد في أشكال مقاومته..فإن حركات الإسلام السياسي ستبقى هي المؤهلة لتأطير حركية المجتمع، مستفيدة في ذلك مما يتيحه لها من امتيازات تواجدها في مراكز السلطة، ومن تحكمها في مؤسسات الحقل الديني والتعليمي، وما تعمل على تسويقه لقواعدها والرأي العام الشعبي من كونها ضحية لما تتعرض له من حصار وتقييد لعملها السياسي من طرف الدولة المخزنية وبعض القوى العلمانية حسب تعبيرها.

وفي الإطار نفسه، ومن أجل إبراز وفهم هذه المزاوجة بين المسؤولية والمعارضة في تدبير الشأن السياسي العام بالنسبة لهذه الحركات، يمكن الاستئناس بالبيان الأخير للمكتب السياسي للعدالة والتنمية، الذي ينتقد فيه بشدة أداء الحكومة التي يترأسها كاتبها العام نفسه. ونظرا لكل ما سبق ستبقى هذه الحركات الملاذ الوحيد الذي ستلجأ إليه الدولة المخزنية بإيعاز من طرف قوى الرأسمال العالمي من أجل عقد توافقات سياسية بديلة معها تؤمن لها الاستمرارية ولو مرحليا في التحكم وضبط حركية المجتمع.

2- قراءة في التوافقات السياسية الجديدة

- قراءة في الحيثيات والأسباب

إذن، ومن خلال ما سبق فإن الوضع السياسي الراهن الذي يتميز ببروز ثلاثة فاعلين سياسيين أساسيين تغيب عنه القوى المسماة وطنية ديمقراطية، بعد أن استنفدت مهامها التاريخية وشاخت نخبها السياسية وأصبحت عاجزة عن تبوء أي دور يذكر في المشهد الحالي، كما تغيب عنه كذلك قوى اليسار الجذري الديمقراطي التي لم تتلمس منذ تأسيسها طريقها إلى مواقع الفعل والتأثير في الشارع السياسي المغربي، رغم ما كانت تتمتع به من قوة في الحقل الطلابي.. بالإضافة إلى ما يتسم به من ارتفاع لمنسوب الاحتقان الاجتماعي والسياسي نتيجة ما يمر به المغرب من أزمة مركبة وشاملة، لا يمكن له أن يستقيم دون أن تترتب عنه توافقات سياسية معينة بين الدولة المخزنية كطرف قوي وثابت في المعادلة السياسية بتحكمها في مفاصل الدولة، وذلك رغم ما تتسم به من ضعف وهشاشة في علاقتها بالمجتمع الذي فقد في غالبيته ثقته بها، وبين قوى الإسلام السياسي المشرقي التي تشكل قوى صاعدة تعتمد القضم التدريجي للمجتمع والدولة وتسوق نفسها كقوة قادرة على ضبطه رغم كل الصعوبات ذات الصلة بما كان يتمتع به المجتمع المغربي ولازال من خصوصيات روحية ودينية وثقافية عريقة شكلت مقومات مناعته تاريخيا في ما يخص علاقته بالمشرق الإسلامي، وحالت دون انتشار هذه الحركات بالسرعة المطلوبة رغم الدعم والرعاية التي طالما قدمت لها داخليا وخارجيا. كما أن هذه التوافقات السياسية بين الطرفين الفاعلين في المشهد، والتي من غاياتها تطويع المجتمع مرحليا كطرف ثالث ممانع لكنه يفتقد لمعبر سياسي يتمثل مطالبه في الحرية والتنمية والديمقراطية، بقدر ما سيكون من غاياتها خلق شروط استقرار سياسي يضمن استمرار نظام الحكم المخزني، حتى وإن كان على حساب ما تمت مراكمته في مجالات الحقوق والحريات خلال العقد الأول من الألفية الثانية، وكذلك على حساب بعض القيم الحداثية للدولة والمجتمع الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، بقدر ما ستعمل على ضمان المصالح الإستراتيجية للوبيات المالية والاقتصادية.

.. إن هذه التوافقات السياسية الجديدة تبدو إذن ضرورية لتدبير المرحلة المقبلة وتحديد أدوار الفاعلين الأساسيين، فيها بما يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي. إذن إنها بداية تحالف جديد، رغم ما يعتريه من تناقضات ظاهرية، بين الأصولية المخزنية وبين حركات الإسلام السياسي، تنبئ بحدوث توافقات سياسية بديلة عن تلك التي نسجتها الدولة المخزنية مع أقطاب الحركة الوطنية إبان مرحلة بدايات الاستقلال، بعد أن فقدت هذه القوى هيمنتها على الشأن السياسي والثقافي، وتراجعت قدرتها على الفعل وتأطير وتوجيه حركية المجتمع، وهي التوافقات التي كانت ولازالت ضرورية بالنسبة لنظام الحكم المخزني من أجل ضمان استمراره، ولا يهمه في ذلك أن تتم بسلهام الحركة الوطنية، أو بالعباءة الشرقية. كما أن هذه التوافقات البديلة يميزها عما سبقها أن ما مورس من عنف سياسي ضد المشروعات التاريخية الأخرى المعارضة كانت تتم بواسطة أحزاب الحركة الوطنية نيابة عن القصر أو بإيعاز منه، خاصة في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي، وكان شعارها في ذلك هو الدفاع عن العرش والمؤسسة الملكية ووحدة الوطن ضد أي معارض تحت طائلة الخيانة العظمى.. وبالتالي فهي تتحمل قسطا وافرا من المسؤولية في ما مورس من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ومن تضييع الفرص في ما يخص الانتقال إلى الديمقراطية، أو بتدخل مباشر منه في مراحل لاحقة عندما استقوت المؤسسة المخزنية وبدا يطال عنفها حتى تلك القوى نفسها المحسوبة على الحركة الوطنية، وذلك من أجل إضعافها والتنصل من كل توافقاته السياسية معها، في أفق الانفراد بالحكم والسلطة، وهو ما لم تتورط فيه حركات الإسلام السياسي في المغرب بشكل واسع رغم ما اقترفته من جرائم في حق بعض المناضلين الشرفاء.

أما الآن وبعد أن وصلت الدولة المخزنية في تغولها حد قضائها على الكثير من مقومات المناعة لدى المجتمع المغربي، وإضعافها لكل حلفائها التقليديين من أحزاب الحركة الوطنية وغيرها، إضافة إلى محاربتها المستمرة للأحزاب التقدمية وتدجينها لكل المؤسسات الوسطية للمجتمع، في مقابل دعمها المباشر وغير المباشر في مراحل تاريخية سابقة لحركات الإسلام السياسي من أجل إنجاز البعض من هذه المهام..يمكن القول كذلك إن ما نشهده من توافقات بديلة تأتي أيضا في سياقات وطنية ودولية مغايرة تغيب فيها الحماسة الوطنية التي ارتبطت بسياقات مرحلة التحرر الوطني، التي كان يشهدها المغرب وتشهدها مختلف دول العالم الثالث، وذلك بعد أن فشلت كل الأطروحات الوطنية والقومية في تحقيق ما سطرته من أهداف تتمثل في التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية خلال مرحلة الاستقلال الوطني. وهي السياقات التي تتميز كذلك باستقواء الدولة المخزنية، وبسيادة الليبرالية المتوحشة التي تعمل جاهدة على إعادة تقسيم خارطة العالم، وذلك وفق منهجية جديدة قائمة على مفهوم الحروب بالوكالة، سواء الناعمة أو العنيفة منها، من خلال تغذية الصراعات الطائفية والمذهبية وتفتيت النسيج الاجتماعي للدول والشعوب، معتمدة في ذلك على حركات الإسلام السياسي وفروعها المتطرفة، التي أصبحت تشكل ثقلا سياسيا داخل هذه المجتمعات التي تعيش على وقع الأزمات والإخفاقات المتكررة؛ وذلك بعد أن وجدت عند هذه الحركات القابلية لتنفيذ أجنداتها وتأمين مصالحها الإستراتيجية في مقابل دعمها من أجل تمكينها من السلطة السياسية...

وفي حالة المغرب يمكن الجزم بأنه لا يخرج عن هذه السياقات، حتى وإن لم يأخذ هذا التدخل طابعا عنيفا إلى حد الساعة، بل سلسا، لكنه يكرس نفس المضامين ولو بخصوصيات مغربية تتسم بتحالف السلطة المخزنية التي يبدو أنها فقدت السيطرة على المجتمع الذي انفلت عنها، وعن جل القوى السياسية الأخرى، وبين حركات الإسلام السياسي التي أصبحت تتحكم في المشهد السياسي والثقافي بعد أن تحكمت في الكثير من مفاصل الدولة والمجتمع الذي يعيش على واقع الأزمة والهشاشة وانسداد الآمال في المستقبل، وفقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها، ساعدها في ذلك كذلك تحكمها في الحقل الديني وفي جل مؤسساته التي يتيحها لها مبدأ إمارة المؤمنين. هذا بالإضافة إلى ما تحظى به من دعم مادي ومعنوي خارجي ينسجم ومخططات الدول الرأسمالية الكبرى التي تعمل على إخراجها من أجل تفكيك وتفتيت الشعوب والمجتمعات بغية ضمان استمرارية مصالحها الإستراتيجية.

إذن يمكننا القول بلغة المصالح المرحلية إن هناك من الأسباب ومن عناصر التلاقي ما يكفي لتشكل هذا التحالف على قاعدة توافقت سياسية بديلة مدعومة من طرف قوى الرأسمال العالمي..لكن كذلك يمكننا التساؤل عن مخاطر هذا التحالف ومدى انعكاساته السلبية على المجتمع والدولة ونظام الحكم.

- قراءة في المخاطر والتداعيات

إذن علاقة بما سبق. ألا يمكن القول إن ما لم تدركه الدولة المغربية أن دخولها في توافقات سياسية جديدة مع هذه الحركات سوف تنتج عنه تداعيات خطيرة لن تكون كسابقاتها التي تمت مع أقطاب الحركة الوطنية التي حتى وإن اختلفت مع شخص الملك في مراحل تاريخية معينة، إلا أنها كانت دوما وفية وحامية للعرش..ولن يكون التنصل منها كذلك بالسهولة التي يتصورها نظام الحكم السياسي في المغرب، كما كان الشأن مع الأقطاب سالفة الذكر..بل سيكون مضطرا مع مرور الوقت لتبني أطروحتها الفكرية والإيديولوجية لضمان استمراره واستمرار رضى المجتمع عنه بعد أن يصبح هذا الأخير في غالبيته حاضنا لها؟.. وقد بدت بعض مؤشرات ذاك من خلال إطلاق أسماء تبجل الرموز الإخوانية والدينية على بعض المعالم الحضارية في المغرب، كإطلاق اسم سيد قطب على شارع بطنجة، واسم البراق على القطار السريع، وكتيبة عثمان بن عفان على الفوج الجديد من كتيبة الضباط الخ....وبالتالي فإن عملية التنصل منها ستكون صعبة وعنيفة ستنعكس آثارها السلبية في كلا الحالتين على الجميع.

إن هذا المشروع الأصولي المركب بين الأصولية الدينية المشرقية والأصولية المخزنية المتحكمة في مفاصل الدولة سينزع لا محالة عن هذه الأخيرة ما كانت تتسم به من خصوصيات تاريخية سياسية، روحية، وثقافية تراكمت لقرون من الزمن، مكنتها من استقلاليتها عن الشرق الإسلامي، وما تنازعته ولازالت من تيارات أصولية متعصبة؛ وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن آفاق هذا التحالف الهجين، وعن مدى إدراك خطورته على الدولة والمجتمع من طرف من قاموا بإخراج هذا السيناريو الذي لن يدوم طويلا، بل لا بد أن يميل لصالح قوى الإسلام السياسي، نظرا لاستقوائها وتحكمها المتدرج في المؤسسات الدينية وفي مفاصل المجتمع والدولة..وإن اعتقد الجناح المتنفذ من داخل الدولة المخزنية عكس ذلك فسيكون كمن اعتقد سابقا من داخل الدولة بإمكانية الجمع بين التقاليد المخزنية في الحكم ومقتضيات الدولة الحداثية كما أسس لها ليوطي، أو من اعتقد من داخل الحركة الوطنية بإمكانية دمقرطة الدولة عبر خلق توافق سياسي دائم معها، وذلك في غياب تعاقدات دستورية ملزمة للجميع.

بالتالي فمن حقنا أن نتساءل عن طبيعة هذا التحالف، هل سيكون تحالفا تكتيكيا من أجل ضبط حركة المجتمع الذي زاغ عن طاعة الدولة ومال جزئيا لصالح حركات الإسلام السياسي؟ وهل يمكن التنصل منه عندما تحين الظروف لذلك، كما كان الشأن مع أحزاب الحركة الوطنية مع مرحلة بدايات الاستقلال عندما كانت هذه الأخيرة متحكمة في دواليب الدولة وصانعة للقرار السياسي في مقابل ما كانت تشهده المؤسسة الملكية من ضعف ووهن..وتآكل لمشروعيتها الرمزية...؟ أم سيكون بالضرورة تحالفا إستراتيجيا إلى حد الاندماج، خاصة عندما ستتماهى الأصولية المخزنية بالأصولية الدينية المشرقية وتتشبع بمرجعيتها الفكرية وهو ما سيدحض اعتقادها الخاطئ بقدرتها على التنصل منه عندما تستعيد توازنها وقدرتها على التحكم في المجتمع من جديد، أو إلى حين تغيير قوى الرأسمال العالمي موقفها منها والتخلي عن دعمها لها؟.

أو بصيغة أخرى، يمكننا القول إن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه، وإن ما نشهده من عودة للدولة المخزنية إلى طبيعتها الأصولية المحافظة تعني غلبة التوجه الأصولي المخزني على التوجه الذي اعتقد من داخل الدولة بالجمع بين الحداثة التي أسس لها ليوطي وبين التقاليد المخزنية العريقة، وذلك في توليفة هجينة كان لا بد لها أن تحسم في أحد الاتجاهين. وبالتالي فإن تحالف التوجه الغالب مع الأصولية الدينية المشرقية يندرج ضمن التلاقي الموضوعي بين مرجعيتين محافظتين تجمعهما مصلحة سياسية ظرفية مشتركة فرضتها ظروف الأزمة التي تمر بها كل من الدولة والمجتمع، لكن مختلفتين من حيث المناهل والروافد. وهنا لا بد من القول إن ما لم تستشعره الأصولية المخزنية هو كون هذه الحركات لا تستقي مشروعيتها من تراثنا الديني المغربي الذي كان دوما مستقلا عن المشرق وشكل تراثا لا ماديا ساهم إلى جانب مكونات أخرى في صقل الشخصية المغربية ومكنها من تلك المناعة ضد التجاذبات المذهبية المشرقية.. بل من مرجعية مشرقية تعمل ضمن تنظيم دولي يؤمن بقيام دولة الخلافة في عموم العالم الإسلامي الذي لا يشكل المغرب بالنسبة لها سوى ولاية من ولاياتها، وهو ما يتناقض استراتيجيا مع مؤسسة العرش وما راكمته من تقاليد مخزنية في شكل الحكم والسلطة، حتى وإن بدت هذه الحركات تكتيكيا متفقة ومدافعة عن إمارة المؤمنين.

إن هذا التوجه المخزني المحافظ في تحالفه مع قوى الإسلام السياسي المشرقي ينزع عن العرش كل المقومات التي شكلت مصدرا لمشروعيته التاريخية وسيفقد تدريجيا موروثه الروحي والديني والثقافي الأصيل في المجتمع المغربي، والتي ستحل محله تدريجيا منابع فكرية إخوانية وهابية؛ وهو ما سيفرض عليه بالضرورة التماهي الكلي معها من أجل ضمان استمراره في الحكم والسلطة، حتى وإن تطلب ذلك الانتقال من المملكة كما خطط لها ليوطي وجزء من الحركة الوطنية إلى الإمارة كما تتصورها حركات الإسلام السياسي الإخواني والوهابي، بما يقتضيه ذلك من تراجع عن كل ما تمت مراكمته من قيم حداثية من داخل الدولة والمجتمع، في مقابل تسيد الفكر التكفيري والخرافي الذي سيدخل المجتمع في صراع أفقي حاد يقضي على اللحمة التي ميزت النسيج الاجتماعي المغربي عبر تاريخه العريق.

3- اليسار وصعوبات التغيير الديمقراطي.

أمام ما سردناه من تحليل لمجمل التحولات التي تشهدها الدولة المخزنية برجوعها إلى طبيعتها الأصولية والمجتمع الذي أصبح يعيش حالة احتقان خطيرة نتيجة ما يعيشه أزمة شاملة تدفع به إلى البحث عن ملاذات أخرى، حتى وإن كانت روحية ودينية، وذلك في غياب مشاريع مجتمعية بديلة، وبالتالي أصبح يغلب عليهما طابع الاخونة والدعشنة، خاصة مع ما يشهده التوجه الديمقراطي الحداثي، سواء من داخل الدولة أو المجتمع، من ضعف وتراجع لم يسبق له مثيل في تاريخنا السياسي المعاصر. أمام كل هذا وذاك سيكون من السهل على حركات الإسلام السياسي أن تتمكن أكثر فأكثر من مفاصل المجتمع الذي ستعمل عبر قنواتها التنظيمية النشيطة على ضبطه وتأطيره وفق إستراتيجيتها السياسية والمذهبية التي تتقن عبرها المزاوجة بين السلطة والمعارضة، وهو ما يجعلها تتصدر المشهد السياسي في المراحل القادمة.

إن هذا المشروع إن هو نجح في إستراتيجيته ستكون مواجهته، مع كل تداعياته الخطيرة السياسية والمجتمعية التي ستسمح ببروز هويات مغلقة وارتدادية تهدد وحدة النسيج المتعدد الذي شكل علي مدار التاريخ خصوصية مجتمعنا المغربي، صعبة ومركبة، تقتضي منا مجهودا مضاعفا يشكل فيه النضال من أجل الديمقراطية إضافة إلى النضال علي الواجهتين الثقافية والاجتماعية أحد مداخلها الأساسية. وإذا كان مطلب الانتقال إلي الديمقراطية أقرب إلينا في المرحلة السابقة، نظرا لما كانت تتسم به هذه المرحلة والأرضية الثقافية التي كانت تؤطرها من عناصر وقيم حداثية، وذلك رغم الاستبداد السياسي المرتبط عضويا بالشكل المخزني للدولة وما يكثفه من تقاليد حكم رجعية ومحافظة، كانت تقف حاجزا في وجه كل محاولات التحديث الموروثة عن الحقبة الاستعمارية القائمة على مفهوم الدولة الوطنية القومية، ورغم كل الصعوبات التي حالت دون تحقيقه، والذي تتحمل فيه المسؤولية المباشرة المؤسسة الملكية والحركة الوطنية المتنفذة وما صنعته هذه المؤسسة من مشهد حزبي متحكم فيه في إطار ثنائية المعارضة أحيانا والموالاة أحيانا أخرى بالشكل الذي يحيل علي نظام حكم سياسي شمولي رغم تعدد أحزابه ظاهريا، إضافة إلى رعايتها لحركات الإسلام السياسي تماشيا مع أجندات دولية خاصة الأمريكية منها وأخرى داخلية، ما وفر كل الظروف لانتشارها وانفلاتها، مستفيدة في ذلك من ازدياد منسوب الشعور الديني علاقة بما يعيشه مجتمعنا من أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة ألقت بفئات واسعة من الشعب المغربي إلى حالة اليأس والهشاشة، إضافة إلي ما يعيشه محيطنا الإقليمي من تصاعد للصراعات المذهبية والطائفية.

هذا المطلب الآن قد ابتعد عنا كثيرا وفي سبيل تحقيقه ستكون الصعوبات والتحديات مضاعفة لأن مواجهة خصومه سوف لن تقتصر على مواجهة الاستبداد السياسي فقط، كما كان الشأن سابقا، بل سيتطلب مواجهة الاستبداد الفكري والثقافي والديني كذلك.. لأن الأرضية الفكرية والثقافية ومجموع القيم التي تعمل هذه الحركات على تسييدها من داخل المجتمع أولا ومن داخل الدولة ثانيا هي ما سيؤطر العمل السياسي للمرحلة المقبلة، وهي في طبيعتها قائمة علي مناهضة ومعاداة كل قيم الحداثة والديمقراطية، ولكل مشروع سياسي مستقبلي يروم دمقرطة وتحديث الدولة والمجتمع.

إن التعقيدات التي تتسم بها المرحلة وما تفرضه علينا من تحديات آنية ومستقبلية تفرض علينا أكثر من أي وقت مضى مراجعات نقدية شاملة وصريحة لمسار تجربتنا ولمجمل التصورات والآليات التي اشتغلنا بها كفاعلين يساريين ديمقراطيين من مختلف مواقعنا من أجل إحقاق عملية الانتقال الديمقراطي في بلادنا، والوقوف عند مناطق الخلل والفشل في تجربتنا والبحث في أسباب إخفاقاتنا الذاتية حتى لا نريح أنفسنا بإلقاء اللوم فقط على ما كنا نسميه القوى الإصلاحية والدولة المخزنية أو ما أسميته الحركة الوطنية المتنفذة مع تنزيه ذواتنا وتنزيه الجسم اليساري المتهالك الذي ولد مشتتا تنظيميا وضعيفا فكريا رغم ما عرفه هذا الفكر من انتشار واسع في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، خاصة في الجامعات المغربية والأوساط العمالية. ولو أن حالة المد هاته التي كان يشهدها الفكر اليساري في المغرب لم تكن بمعزل عما كان يشهده محيطنا الإقليمي والدولي من مد تحرري، بالإضافة إلى الظروف الموضوعية على المستوى الوطني المتمثلة في الانتكاسة السياسية التي عرفها المشروع السياسي للقوى التي أسميناها إصلاحية والأزمة الهيكلية التي كان يمر بها النظام السياسي المغربي ولازال، والتي كانت من نتائجها المباشرة محاولتان انقلابيتان في أقل من سنتين. لكن، رغم كل الظروف المواتية لم يكن اليسار الجديد المغربي في مستوى التقاط اللحظة التاريخية من أجل تغيير موازين القوى لصالح المشروع الديمقراطي الجذري، وذلك رغم كل التضحيات التي قدمها في صراعه السياسي بهدف إنجاز مهام "الثورة الوطنية الديمقراطية"، وهو الذي جعل من مهامه الأساسية، التي استنزفت الكثير من الجهد والطاقة، العمل على توحيد تنظيماته بعد أن اختزل أزمته في تشتته، واعتقد أن الحل يكمن في تجميعه متناسيا في المقابل كون أزمته تكمن في بنيته الفكرية والإيديولوجية المحافظة، التي لم تستفد من المراجعات والاجتهادات التي كانت تتم من داخل المنظومة الفكرية الماركسية واليسارية بصفة عامة، وعدم استيعابه للخصوصيات السوسيو ثقافية والتاريخية للمجتمع المغربي التي أغفلها في تصوراته السياسية وآلياته التنظيمية وبقي معزولا عن الواقع الذي سعي إلى تغييره، وقد تحكمه في ذلك إلى يومنا هذا أيضا نرجسية مفرطة للذات، فأسقط بذلك منطق الرياضيات في عملية جمع الأعداد على علم السياسة بعد أن تناسى أن الجمع بين مكونات سياسية مأزومة لا تعني بالضرورة القوة، بل إعادة تركيب للأزمة وتوفير الشروط الموضوعية والذاتية لانقسامات أكثر حدة، وهو حال اليسار المغربي إلى حدود اللحظة.

إن هذه المقدمة ارتأيتها ضرورية في سياق البحث عن ماهية الإجابات الممكنة عن واقعنا السياسي الراهن الذي أصبح أكثر تعقيدا مما مضى، بحيث أصبحت تتنازعه مرجعيتان محافظتان ومناهضتان للمشروع الديمقراطي الحداثي، الأولى تتمثل في الأصولية المخزنية والثانية. في الأصولية الإخوانية الوهابية...إنه الواقع الذي يقتضي منا الارتقاء بنقاشاتنا لتصبح عمومية ومنفتحة على ما تبقى من الفعاليات الديمقراطية والحداثية السياسية والفكرية والثقافية لتتشكل ضمن جبهة ديمقراطية عريضة.. وأخص بالذكر تلك المستاءة من واقعنا السياسي الحالي والمستعدة للقيام بمراجعة عميقة لمسار تجاربها السياسية، ومدركة لحجم التحديات التي تنتظرنا كيساريين ديمقراطيين وحداثيين في ظل التنامي المضطرد للمشروع السياسي الأصولي، وعجز المنظومة السياسية التقليدية تاريخيا "بيمينها" ويسارها في تقديم الإجابات عن حاجات المجتمع المغربي في التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ولا أعني قطعا تلك النخب التي استفادت ولازالت تستفيد من الوضع السياسي القائم وتعمل جاهدة على تكريسه.

في إطار المساهمة دائما في تحديد بعض المنطلقات التي أراها ضرورية لأن يستقيم بنا هذا النقاش، وحتى لا نحيد علي جوهر الإشكال الذي يتماها ومطلبنا الرئيسي في إحقاق الديمقراطية التي تتحمل المسؤولية التاريخية في إقبارها أحزاب الحركة الوطنية المتنفذة والقصر، وكذا مسؤوليتهما المباشرة وغير المباشرة عن واقع الأزمة الشاملة التي يشهدها المجتمع المغربي التي أدت بالضرورة إلى ما نحن عليه من تصاعد للمد الأصولي الإسلامي الذي تحاول من خلاله الدولة المخزنية وبعض أدواتها السياسية المستحدثة، بعد أن شاخت واستنفذت تلك المحسوبة على الحركة الوطنية دورها التاريخي، العمل علي حث بعض النخب الديمقراطية والحداثية غير المتورطة في الريع الاقتصادي والسياسي، لأن تنخرط من مختلف مواقعها المدنية والسياسية في مشروع المواجهة التي يشكل خطر المد الأصولي عنوانها العريض، وذلك من أجل الحفاظ على توازناتها السياسية وإطالة عملية تحكمها في المشهد الحزبي الجديد بعد أن كاد ينفلت منها، ودون أن تكون لديها النية الحقيقية في استئصال جذور هذا المشروع السياسي الدخيل من خلال استئصال منابعه وأسباب انتشاره، بل يتم توظيفه بالشكل الذي تجعل منه فزاعة للقوى الديمقراطية والحداثية التي عليها واجب الاختيار بين تحكم الدولة المخزنية وبين تحكم قوى الإسلام السياسي، متناسية كونها من رعت وساهمت في انتشار الأصولية الدينية المشرقية على حساب قوى الصف الديمقراطي اليساري؛ وذلك بعد أن تم قمعها وإضعافها بشكل ممنهج، وعلى حساب موروثنا الديني والحضاري بعد أن تم القضاء على القرويين في الستينيات من القرن الماضي واستبدالها بالمدرسة الحسنية، وتفريخ المدارس القرآنية واستبدال المناهج الدراسية والمقررات التي تحفز الفكر النقدي بتلك التي تبجل النقل على حساب العقل، وبعد أن مكنتها من جل مؤسسات الحقل الديني وبكل ما يتيحه لها مبدأ إمارة المؤمنين.

إذن لا بد من التأكيد مرة أخرى على أن أي مشروع سياسي مستقبلي بديل يجب أن يكون همه الأساسي المسألة الديمقراطية التي هي ضحيتهم جميعا، وألا ننزع للاختيار بين أهون الشرين. وأما مقاومتنا الصريحة للفكر الأصولي بكل أشكاله وتمظهراته هي مسألة مبدئية في أي مشروع سياسي بديل يروم دمقرطة الدولة والمجتمع، لكن ليس على حساب الديمقراطية، وحتى لا نتحول مرة أخرى كذلك إلي صمام أمان الدولة المخزنية في طبعتها اليعقوبية التي وجدت نفسها حبيسة الوضع الاقتصادي والسياسي الذي صنعته، ونعيد بذلك إنتاج تجربة الحركة الوطنية المتنفذة مع هاته الدولة في مراحل تاريخية سابقة اتسمت بتأزم وانسداد آفاق مشروعها السياسي التقليدي وعجزها في تجديد نخبها، وحتى لا نسقط كذلك في فخ التحليل القائم علي مبدأ الاختيار بينهما، بما يدفعنا مرة أخرى إلى التخلي عن مطلبنا التاريخي الذي هو مطلب المجتمع المغربي في إحقاق الديمقراطية كشرط لأي تعاقدات سياسية ومجتمعية مستقبلية. وإن نضالنا هو ضد الأصولية سواء في شقها المخزني أو الديني.



تدمري عبد الوهاب