حتى نخرج بالدرس الجامعي من جدران المدرجات إلى الفضاء العام الافتراضي أود أن أبسط بعض المفاهيم التي يخلط البعض في تحديدها ويعتبر مثلا الحريات العامة وحقوق الإنسان وجهين لعملة واحدة، والواقع أن مفهوم الحريات العامة يختلف عن مفهوم حقوق الإنسان من عدة أوجه، هي كالتالي:

أولا: اختلاف الحريات العامة عن حقوق الإنسان من حيث الأساس:

Liberté- فالحريات العامة مبنية على فكرة الحرية

droit- أما حقوق الإنسان فقائمة على فكرة الحق

والحق معناه أوسع من الحرية، بل إنه يشملها. وعليه، يمكن القول إن كل حقوق الإنسان هي حريات عامة والعكس ليس صحيحا.

ثانيا: اختلاف الحريات العامة عن حقوق الإنسان من حيث النسبية والإطلاق:

فالحريات العامة هي نسبية وتختلف من دولة إلى أخرى، كما أنها تختلف من زمان إلى آخر. فمثلا، الحريات العامة بالمغرب ليست هي الحريات العامة بالسويد، والحريات العامة بالمملكة العربية السعودية ليست هي الحريات العامة بالمغرب. لماذا؟

لأن الحريات توصف بـ "العامة" لكون الدولة كسلطة عامة هي التي تنظمها وفق أيديولوجيتها، وهذا المعيار أساسي في تحديد مفهوم الحريات العامة، وليس العمومية، لأن كل الأفراد يتمتعون بها وإلا سميناها "الحريات العمومية".

عكس حقوق الإنسان فهي مطلقة وليست نسبية، ولا تتأثر بالمتغيرات الايديولوجية أو السياسية أو الإثنية، فكل الناس يتمتعوا بحقوق الإنسان بغض النظر عن الجنس أو العرق أو اللغة.

والقول بأن الحريات العامة تعني حقوق الإنسان يعني أن حقوق الإنسان تسبح في بحر الحرية ويصعب التقاطها من التيارات الإيديولوجية المتصارعة، وتقسيم الحرية إلى مفهومين متصارعين يناقض فكرة حقوق الإنسان من حيث النشأة والتطور؛ فحقوق الإنسان تنبثق من فكرة وحدة هذه الحقوق ومن ضرورة الاعتراف بها للإنسان لمجرد كونه إنسانا.

ثالثا: اختلاف من حيث المصدر:

بما أننا اعتبرنا الحريات العامة نسبية، فان الدولة هي التي تتدخل لتنظيمها عبر القانون الوضعي–التشريع، بعكس حقوق الإنسان، فهي تستمد من القانون الطبيعي الذي يعد سابقا عن وجود الدولة نفسها ويحقق العدالة والمساواة عكس القانون الوضعي.

رابعا: اختلاف من حيث المضمون:

القول بأن الحريات العامة هي حقوق الإنسان فيه تناقض صارخ؛ ذلك أن الحريات العامة كما سبق ذكره هي ما اعترف به المشرع، وبالتالي توصف بالعامة ولا توجد نطاقها حريات خاصة، وهو ما يتنافى مع منطق حقوق الإنسان التي تعترف بالحقوق الخاصة (حقوق الطفل/حقوق المرأة/حقوق المهاجرين/حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرها).

خامسا: اختلاف من حيث التمييز بين الحقوق السلبية والحقوق الايجابية:

كما أن فهم الحريات العامة بكونها حقوقا للإنسان يصطدم بفكرة تطور حقوق الإنسان من حقوق سلبية إلى حقوق إيجابية، أي الانتقال من الحقوق السياسية والمدنية إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولما كانت هذه الحقوق تقتضي تدخلا من الدولة لتوفير الإمكانيات اللازمة لممارستها، فإنها تبتعد عن فكرة الحرية في معناها الأصلي التي تفترض وجود مجال متروك للفرد ليستطيع التصرف في حدوده دون تدخل الدولة.

وبناء عليه، لا يمكن القول إن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تعد حريات وإلا انهار الأساس القانوني لهذه الفكرة الأخيرة، ولعل الأمر يتجلى بوضوح حين استعمال مفهوم الحريات العامة كمرادف لحقوق الإنسان، وبالخصوص "الجيل الثالث" مثل الحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة، فهي حقوق لا حريات عامة، فهي ليست حقوقا للإنسان تجاه الدولة بهدف منحه هامشا من الاستقلالية.

وعليه، فهي ليست من مشمولات الحريات العامة، كما أن الدولة لا تدين للفرد بهذه الحقوق كالحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة مثلما هي مدينة له في إطار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل إن الحقوق الجديدة للإنسان هي حقوق تضامن تدين بها الجماعة الإنسانية كلها بعضها لبعض، فهي حقوق جماعية لا فردية.

ولكن متى يتحول حق من حقوق الإنسان إلى حرية من الحريات العامة؟


عبد الرحمان شحشي