من معركة التحرير إلى معركة الديمقراطية

-1-

إن الجيل الحالي الذي يخوض معارك الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان بالمغرب على كل الواجهات يأتي مباشرة في الترتيب الزمني الجيل الثاني بعد الذي خاض معركة التحرير بكل ضراوتها وعنفها وخطورتها انطلاقا من معركة حمو الزياني إلى معركة عبد الكريم الخطابي، ومنها إلى معارك الاستقلال والحريات العامة.

جيل فتح عينيه على المغرب وقد أنهى صراعه المسلح مع الاستعمار المباشر ليدخل في صراع بناء الاستقلال الذي لا يقل خطورة ولا أهمية عن الصراع السابق. إنه الجيل الذي وقع على وثيقة الاستقلال وآمن بأن حركية الحياة والتاريخ تفرض منطقها الذي يدفع بالحياة إلى الاستمرار بمشاكلها وأزماتها وصراعاتها وإرثها المتواصل.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بحدة على الأجيال المغربية الجديدة: هل استطاع المغرب توظيف مكاسب أجياله السابقة وصراعاتها في بناء المغرب المستقل؟

إن ما تؤكده الوقائع والأحداث أن جيل عهد الاستقلال ركب سفينة التحدي منذ البداية لا فقط لأنه استلم مغربا متعدد المشاكل والأزمات من الإدارة الاستعمارية، ولكن أيضا لأنه استلم مغربا في حاجة ماسة إلى دمجه في العصر الحديث وانخراطه في نادي الديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة المؤسسات.

إنه ورث قضايا ومشاكل وأزمات تمتد بجذورها إلى حقبة طويلة من التاريخ حيث كان الكل يجري في غرف مظلمة وكان الرأي والقرار يتخذان بعيدا عن الجماهير وعن اهتماماتها وطموحاتها، إنه كان يطمح لوطنه بعدما استرد استقلاله أن يلعب دوره التاريخي على الساحة وهو في حالة تسمح له أن يوفر الكرامة والعيش الكريم والتربية والصحة والشغل لكافة المواطنين، وأن يعم الازدهار كل القطاعات الوطنية، وأن يلعب دوره بنجاح وإتقان ومسؤولية، وأن يسهم في الصراع الدولي على قدر حجمه التاريخي، وأن ينتزع حقوقه المغتصبة في التراب الوطني بكل قواه، وأن ينتزع حقه من وسائل الازدهار والتقدم الحضاري والتكنولوجي، وبجهده وعرقه وصدقه.

تلك كانت طموحات جيل ما بعد جيل التحرير، فهل تبخرت هذه الطموحات أم أصابها الإحباط والتراجع؟

-2-

نعم، فتح الجيل المغربي الجديد عينيه على مغرب مطوق بالأزمات، ووجد نفسه في عهد الاستقلال يتحمل العديد من المسؤوليات الموروثة عن الأجيال الماضية، ومن ضمنها حماية الاستقلال والوحدة الترابية وتأمين حقوق الإنسان وحرية الرأي ودعم دولة الحق والقانون وتوسيع دائرة الديمقراطية وحماية مكتسباتها ومزجها بالمثل والقيم الذاتية والقومية للمواطن المغربي، ووجد نفسه أيضا يتحمل مسؤوليات أخرى ترتبط بشروط الاستقلال، تدخل ضمن ذلك الإرث العظيم الذي تسلمه من يد الجيل السابق، منها مسؤولية تعميق خطة التربية والتعليم في نفوس العباد لتكون ملائمة أكثر للواقع الثقافي والاجتماعي والحضاري حتى يصبح التعليم مفتاح التقدم والازدهار، ومفتاح تحقيق كل أحلام الاستقلال وحقا من حقوق المواطن من المهد إلى اللحد.

وجد الجيل الجديد نفسه وجها لوجه أمام مسؤوليات مستعجلة تتصل بتأمين الخبز والشغل والصحة لملايين المواطنين في بلد مازالت بنياته الاقتصادية تشتكي من أمراض الماضي بسبب التخلف الذي يطوقه من كل الزوايا وبفعل مخلفات الفترة الاستعمارية، وهي مسؤوليات أغلبها استثنائية، ولكنها حاسمة، وهي المسؤوليات نفسها التي جعلته يركب سفينة محفوظة بالمخاطر، يناضل من داخلها ضد اليأس والإحباط كجيل استثنائي بكل المقاييس والمواصفات.

-3-

إلى منتصف القرن الماضي، كانت "الأزمة" في أوروبا الغربية نتاجا طبيعيا ومباشرا للخلخلة الاقتصادية التي عرفتها هذه القارة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تكن تمس المناحي الأخرى في حياة الناس، لأنها كانت محاصرة بموانع الثقافة والفكر، وبأسس التربية الأولية للأفراد... لكن يبدو أن أزماتنا المغربية تتخذ اليوم منحى آخر، تطورت كمفهوم وكواقع اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي عام، إلى الحد الذي أصبحت شاملة تتحدى كل الموانع الموضوعة في طريقها.

وإلى منتصف القرن الماضي أيضا، كانت "الأزمة" في المغرب ديمغرافية واقتصادية بحثة، لكن بسببها بدأت المقومات الأخلاقية في الانهيار، وبدأت التوازنات الاجتماعية والاقتصادية... وحتى السياسية في الانحدار، وأصبحت الأزمة تأخذ حجم الغول الذي يلتهم كل ما في طريقه.

إن الحالة المغربية لا يواجهها اليوم التحدي الديمغرافي وحده، بل تواجهها تحديات متنوعة ومتداخلة ومرتبطة بسلسلة من المعطيات، منها السياسي والثقافي، ومنها الاجتماعي والاقتصادي، ومنها الأخلاقي. ولأن المغرب كان على أبواب تحوله التاريخي، وبصدد استكمال الشروط الموضوعية لهذا التحول، فإن العراقيل المادية والمعنوية، الاقتصادية والأخلاقية، تظل واقفة في وجه التحول المنشود، وهي العراقيل التي تذوب عادة أمام الإرادة الجماعية لكل انتقال إلى مرحلة جديدة من التاريخ.

العديد من المحللين "للحالة المغربية" يعتبرون أن مسألة التحول والانتقال والخروج من الأزمات، أو من بعضها على الأقل، مسؤولية جماعية، مسؤولية الدولة والحكومة والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والحقوقية، مسؤولية الأبناك ورجال الأعمال والمستثمرين، مسؤولية الأساتذة والمعلمين والخبراء… والمجتمع المدني كافة. وهو ما يعني بصيغة أخرى أن النخبة الواعية بظروف هذه "الحالة" وخلفياتها التاريخية والمادية وأثارها السلبية على الحاضر والمستقبل، هي الأكثر مسؤولية والأكثر وعيا بها، وهي وحدها القادرة على تقريب الانتقال المطلوب إلى وضعه المطلوب.

والسؤال: متى تقوم هذه النخبة بدورها في تعميق وعي الشعب المغربي بمتطلبات الانتقال وبشروط خروجه أو إخراجه من أزمته/أزماته؟ وماذا فعلت هذه النخبة للحد من اليأس الذي يبتلع الحالة المغربية على مرأى ومسمع من أزماته المشتعلة؟.


 

محمد أديب السلاوي