لسنوات، ناقشنا في معاهدنا وجامعاتنا مفاهيم إصلاح المجتمع بطريقة يتبعها  رجال الدين والسياسة ودعوتهم التوجيهية لتعايش الأديان ،وأسباب عدم وصولهم الى نتيجة متزنة.

نوقش موضوع القوة التوجيهية الروحية السياسية والدينية الأعلى. ونوقش موضوع القتل ليس جريمة وإنسيابية تحليلها دينياً. وتبارى محامون بموضوع الكذب ليس جريمة يحاسب عليها القانون. ومنافع ومساوئ جلوس السلطان الحاكم  وتربعه على كراسي السلطة. ونوقش سياسياً إحتلال وإغتصاب أرض وإستعباد شعب بمضامين يبررها الرب الأعلى بكتب دينية مقدسة ، ونصوص القانون الدولي بشأنها. وبقي الباب مفتوحاً للنقاش.

ذلك مايظنه وإعتقد به البعض منذ زمن فرعون الى زمن البرلمانات العربية والسحرة من رجال الدين والسياسة ممن أداروا دولاً في كل العالم وخلال كل العصور الى يومنا هذا. قوتهم التوجيهية كما تقرأها في بياناتهم المعلنة الرسمية " هي موازنة الاغراض الإنسانية وربطها بالحقائق الموضوعية ، لكن إدخالها بالعنف والتحيّز والنفاق زاد من الكراهية والفرقة والتشرذم بينهم . وهنا مايثير من سطحية القوة السياسية والدينية وفق هذا التصنيف وإعلائها مفهوم الخلاص بأنه يتم  بزيادة شراء الأسلحة والحديد من دول التجارة وتوزيعها بين الفرقاء من مليشيات القتل العنصري والمذهبي. 

حرية الرأي رافقها فساد الرأي في النشأة السياسية لدول عربية ملكية ودستورية ديمقراطية ويمكن تصورها كسفينة شراعية تُبحر المحيطات  بلا ألية ملاحة تستطلع مهاب الريح والعواصف.  ولعل الوقوف على أسوأ النماذج الرمضانية التي تحدثت عن هوية المجتمع في شهر الصيام المهرج السياسي في برلمان العراق الذي يمتدح نفسه في قناة تلفزيونية ويكشف في أرذل الصور عن زملائه البرلمانيين وأكاذيبهم وحيلهم وسقوط الدولة العراقية  وبالحديث عن نسب الخمر والمخدرات في جسم الخمارة دون أي معرفة مختبرية علمية.  

كذلك ماتناقلته الأخبار مؤخراً عن اصلاح المجتمع بما أثاره مؤخراً خطيب مصري بتعميم الأساءة على شعب مصر ووصف أبنائه بأدنى الأسماء " عهر وزنا وسمسرة ورقص وبرامج جنسية وتحشيش في خيام ووو ألخ". ويترك من خطبته مكرمة العمل لشعب عامل منتج من طبقات المجتمع " كالمهندسين والفنيين والأطباء وممرضات المستشفيات  والمختبرات وعمال الطرق والقطاع الخاص وموظفوا حركة الطائرات وطرق السير  والصيانة " حيث تختلف أوقات عملهم المسائية والصباحية . فهل سيستغفر الله هذا الخطيب ويمنع نفسه عن الأخطاء الفطرية المكرّرة والتحكيم بسور مأخوذة من  القرآن الكريم والرسول الأعظم المعروفة للمسلم المؤمن ولاخلاف عليها؟ 

تصوير هوية المجتمع بما نقلوه من سطحية هذا الفكر الفاقد للتوازن وفقر إنسيابية العلاقات في المجتمع وسيولة العمل جعلهم كمن أمعن النظر (نصف الكأس مملوء أم نصفه فارغ ). أصحابهذا الغموض والتهكم خبراء في إبراز أجزاء مبعثرة من الحقيقة ونقلها للناس تلفزيونيأ ، وحتى لو إتفقوا فإن إتفاقاتهم مِؤقتة لا تطول ،وفي حالات الفشل يتم كسر الكأس كلياً ويتوقف العمل . 

التغاضي عن أخطاء مجالس حكومية منتخبة هو تنصل الدولة الكامل عن المسؤولية.  فالأحداث التي تعم الشارع العربي اليوم ترويج أفكار "جاء شهر رجب وخرج شهر شعبان وبدأ شهر رمضان وفرض الصيام " هدفها المخفي هو زعزعة إستقرار الدولة والتشكيك بقدرة الأنسان ونوايا تخديره المتعمد .  والقوة التوجيهية التي تسلكها اليوم مجالس نيابية وشيوخ دين تعميم الأساءة وزعزعة المجتمع تحتاج المراجعة  والتهذيب . فالظاهر منها فروض مفروضة على الشعب بما هو مفروض عليهم في تعاليم دينية معروفة للعامة ولاتحتاج خطيب جامع مصري أو نائب برلماني سوداني أو سعودي أو عراقي أو كويتي  يحث الناس على الصيام وفروضه. 

مرت علينا سنوات سابقة عديدة ونحن نشاهد تضرع المنشقين عن الأسلام بنفس هذه الطريقة " القاعدة وأفكار طالبان ومدارس الصلاة في أفغانستان  وما إبتدعه الزرقاوي وبن لادن والضواهري والعرعور والبغدادي وفلول همج الخلافة الأسلامية وما جلبوه من دمار وخراب وقتل وتفجير المعالم التراثية وأماكن العبادة وأفعال مخجلة لاتمت للأسلام الحقيقي بصلة ، ويصعب على الفرد تمييز من يدعم مسيرة إجرامها وقوة توجهاتها الحالية.  

كذلك الموضوعية تتطلب من برلمانيي دول التوجيه التقيّد والألتزام بواجباتهم الدستورية التشريعية المعطلة .  والتسائل هو : لماذا هذا التنوع والتكهن والتصور وتوسيع مداركنا في التعبد  وأمور ليست من إختصاصهم أصلاً ؟ أين أوصلوا شعوبهم  بإلحاح المفاضلة المذهبية بهذا الإرباك اليومي ؟ وكيف نجمع بين أفكار الخطيب الديني والخطيب السياسي وهما يُحشّدان الخلاف ويتحدثان عن الرذيلة بدلاً عن نقاوة روحانية الدين ونظافة الخدمة اليومية السياسية ؟ نقاوة ونظافة الدين في أي مجتمع ولا تُشجع ولاتُساير جرائم القتل بتحشيد المفاضلة المذهبية التي مارسها علناً الإسلام السياسي وإدعياء الدين ودخلوا على الرعية ببرامج تلفزيونية وبلحايا التصوف والعمائم للحديث عن طرق التعبد والزنا والحجاب ولباس المرأة .  كيف تجمع بين نجاح عمل برلمان وتنسيقه للمشاريع الأنتاجية وتدشينها وبين برلمان فاشل ينسق أعماله بذكاء ماكر بترويج الدعاء الى الله ونشر قصص " جاء رجب وخرج شعبان " ؟ 

الأشهر الحرام وكيفية الألتزام بالطقوس الملزمة للمسلمين ليست في بنود الدستور أو مهام واجباتهم . ووصايا الرسول وواجبات الناس في شهر رمضان وتلمُّس الدعاء الى الله أقوال محببة إلينا "اللهم حل مشاكل أهلي ومعارفي ووطني ومن سكن قلبي وأدخل السعادة الى قلوبهم وأعفي ذنوبهم واغفر لهم .أحفظنا يارب من كل مكروه ". دعاء أجمل مافيه الأيمان والتضرع الى الرب الأعلى ، لكنه ليس من تقاليد يتبعها أعضاء برلمانيون وهم يعرفون ان دعوات الناس الى الرب علاقة روحية لا دخل لهم فيها ولا يتطلب إبعاد المرض والوباء والستر إستشاراتهم  المذهبية والطبية وهم يجالسون الناس في دور العبادة وقاعة البرلمان ويتركون شباب يدوحون الشوارع دون عمل وأخرون في تظاهرات رمي حجارة الإنتقام على ممثليهم يومياً.

هذا السلوك التخديري المذهبي جعل مثلاً  مجلس النواب العراقي يناقش مشروع واحد لمدة 12 سنة دون الوصول الى نتيجة ؟ الدليل : ملف وزارة المالية والرواتب وقرارات الصرف وتجزئة العملة (الدينار) تجري وفق غياب عقلي ومناقشة حسابية  منذ عام 2003 . 

فأين الواجب والمسؤولية وتقسيم جهود العمل ؟  إنه تكرار الخطأ وخلق قوى معارضة داخل البرلمان وقوى تعارض المعارضة تجعلك في حيرة فهم العقول التي تعشعش داخل برلمان مفتت يتكلم عن مشاريع مركونة و ملفات مفقودة وحلقة تدور وتدور ويصورها البعض على إنها تقدم ونجاح ويتقبلها الشارع كوعود عصافير الجنة.  

وبأختيارهم أوصلوا مجالسهم النيابية الى وجوه معارضة و وجوه أحزاب معارضة المعارضة  والكل نيام داخل قبة البرلمان يتكلمون عن ما يحللونه للأخرين ويتدخلون في شؤون الزواج والطلاق  وحجاب المرأة  وحرية اختيارها العمل ، في وقت يضعون أيديهم على المال ومصادر الثروة والنفط  والتجارة والإستيراد  ويتاجرون بشعب فقير يلتمس الحاجة للمال لشرب ماء الحياة والصحة وينتظر رعاية الحال والبال للعيش الكريم.

كل الطبقات المثقفة  طالبتهم بتسليط أضواء بناء مدن حضارية تنسجم مع مكرمة العمل لإنعاش وتطوير البلد وإحياء مؤسساته الراكدة ، لا لمثاليات معروفة من قنواتهم الإعلامية التي تتحدث عن الطقوس الدينية والموت وجرائم القتل الرذيلة.

الدين محبة ورضوان الله . وسوء التقييم والتوقيت للأحداث يأخذك الى رؤية اسلوب التناحر بين الأديان وإحدى أسبابه  المعروفة "عدم دقة التفسير وعدم تطابق مضامين الكتب السماوية المرسلة الى الجنس البشري" . المسلم المؤمن يراها ويعتبرها في تمام الدقة والمُلحد ورجل العلم قد لايجدها في تمام الدقة والأمثلة كثيرة .  وفي كل الحالات ترى ان قيمة الأديان بمناهجها ومدلولاتها السلمية في قيادة المجتمع ، ومسألة القبول أوعدم القبول برأي مستقيم أو مخالف في الإعتقاد  يُحفّز على نقاش الفوضى  والتطرف فيه يزيد الخلاف ويجعل الأمم في تناحر زمني مُستمر وصعوبة تعريف هوية المجتمع . ويبقي  الباب مفتوحاً للنقاش السلمي المفيد الى أن تُغلق الأبواب.


ضياء الحكيم