أعلن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، مؤخرا، عن شغور مناصب المسؤولية القضائية ببعض محاكم المملكة بمختلف أصنافها ودرجاتها، داعيا القضاة إلى تقديم ترشحاتهم لهذه المناصب داخل أجل محدد بعد وضعه شروطا للترشح لكل منصب على حدة . وتهم هذه المناصب كلا من: الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بخريبكة، والوكيل العام بمحكمة الاستئناف بآسفي، ورئيس المحكمة الابتدائية بـ: أكادير وسوق الأربعاء واليوسفية والسمارة، والمحكمة التجارية بطنجة، ووكيل الملك بالمحكمة الاجتماعية بالدار البيضاء.

وقد عاد المجلس المذكور إلى الإعلان عن مبدأ التباري بعدما سبق له بدورة سابقة أن لجأ إلى الطريقة الاستثنائية التي يخولها له القانون في حالات محددة، ولقيت معارضة من طرف القضاة ونادي قضاة المغرب خصوصا.

ولتوضيح هذا الموضوع أكثر، سوف نقف على الطريقة التي يحددها القانون للتعيين في منصب المسؤولية القضائية؟ ثم نقف على دلالة خطوة المجلس بالعودة إلى مبدأ التباري المكرس دستوريا قبل أن يكون قانونيا؟

أولا: كيف يمكن للقضاة أن يتقلدوا مسؤولية رئاسة المحاكم وفق القانون المغربي؟

يقصد بالمسؤولية القضائية في المغرب، تلك الوظيفة المتمثلة في رئاسة المحكمة سواء كانت ابتدائية أو استئنافية عادية أو متخصصة، إضافة إلى محكمة النقض، على أنه في الحالتين الأخيرتين يطلق على المسؤول اسم الرئيس الأول. وتطلق كذلك المسؤولية القضائية على مسؤول النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية الذي يسمى بوكيل الملك أو المحاكم الاستئنافية ومحكمة النقض، حيث يسمى بالوكيل العام للملك. ويختص المسؤول القضائي بمهام الإشراف على المحكمة كهيكل إداري يهتم بتدبير شؤونها الإدارية والإشراف الإداري على موظفيها وكذا القضاة، فضلا عن ممارسته لبعض الاختصاصات القضائية أو تفويضه إياها لبعض القضاة بنفس المحكمة.

وقد قصدنا تعريف المسؤولية القضائية في المغرب تمييزا لها عن المسؤولية التي تقع على عاتق كافة القضاة والمتمثلة وفق الفصل 117 من الدستور المغربي فيما يلي: "يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون"، وهي المسؤولية التي رتبت عليها القوانين ضمانات لفائدة القضاة وكذا محاسبة أيضا تطبيقا لمبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" المنصوص عليه دستوريا.

ولتناول موضوع المسؤولية القضائية في المغرب بالشكل الذي تحدثنا عنه أعلاه، نقوم بتسليط الضوء على الإطار القانوني لهذا الموضوع، حيث تجدر الإشارة هنا إلى أن المادة 71 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية تنص على ما يلي: "تقوم الأمانة العامة للمجلس بإعداد لائحة مهام المسؤولية الشاغرة، يتم الإعلان عنها بالمحاكم وبكل الوسائل المتاحة، وتتلقى طلبات ترشيح القضاة أو المسؤولين القضائيين بشأنها من قبلهم أو من قبل المسؤولين القضائيين. تحدد بقرار المجلس:

- لائحة مهام المسؤولية الشاغرة؛

- الشروط التي يجب توفرها في المترشحين والمترشحات، ولا سيما الكفاءات والتجربة المهنية المطلوبة؛

- أجل إيداع الترشيحات.

ينظر المجلس في طلبات الترشيح لمهام المسؤولية الشاغرة وفق المعايير المنصوص عليها في المادة 72 بعده. يجري المجلس مقابلة مع المعنيين بالأمر يقدمون خلالها تصوراتهم حول كيفية النهوض بأعباء الإدارة القضائية. وفي حال عدم اختيار أي مترشح أو عدم التوصل بأي ترشيح، يتولى المجلس تعيين المسؤولين القضائيين وفق نفس المعايير. يمكن للمجلس، نظرا لما تقتضيه المصلحة القضائية، تعيين مسؤول قضائي لتولي مهام مسؤولية قضائية أخرى من نفس المستوى".

ويتضح من خلال قراءة المادة 71 أعلاه أنها حددت مسطرة واضحة للتعيين في منصب المسؤولية القضائية، على غزار ما هو جار به العمل في باقي القوانين التي تهم إدارات أخرى في الدولة. الأصل في هذه المسطرة هو احترام قاعدة التباري عن المسؤولين بين القضاة لكي يتولى المسؤولية القضاة المؤهلون، ولكي تتاح لمؤسسة المجلس فرصة لاختيار الأفضل من المرشحين أمامها. وتبتدئ هذه المسطرة بالإعلان عن شغور المنصب القضائي ودعوة عموم القضاة إلى تقديم ترشيحاتهم داخل أجل محدد مع تحديد الشروط التي من المكن أن يضيفها المجلس والتي يجب أن تتعلق بالمؤهلات المطلوبة في القاضي المرشح حسب المناصب المعنية، ثم إجراء مقابلة مع المرشحين من القضاة لمختلف المناصب الشاغرة. ووضع القانون استثناء ضيقا على هذا الأصل وهو إمكانية تعيين مسؤول قضائي خارج هذه المسطرة في حالتين اثنتين، وهما: عدم اختيار أي مرشح من المرشحين، لأسباب مختلفة سواء كانت تتعلق بالكفاءة أو عدم ترشح أي قاض أو أي سبب آخر، (علما أنه يقتضي في نظري أن يكون السبب واضحا حتى تبرر حالة الخروج عن الأصل). ثم الحالة الثانية، وهي ما تقضيه المصلحة القضائية من تعيين مسؤول آخر بمحكمة أخرى شاغرة شريطة أن يكون من نفس الدرجة.

وفي هذه الحالة، يجب على المجلس كذلك أن يبرر ويوضح ماهية "المصلحة القضائية" التي بررت خروج المجلس عن الأصل وهو مسطرة التباري، لأنه ثبت في الممارسة السابقة بالمغرب أن تقنية "المصلحة القضائية" استعملت في غير محلها.

ثانيا: دلالة خطوة المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تكريسه لمبدأ التباري والالتزام بالقانون

إن قيام المجلس الأعلى للسلطة القضائية بإعلان حالة شغور العديد من المسؤوليات بالمحاكم المغربية هي خطوة تبقى عادية وتطبيقا منه للقانون ليس إلا !! لولا أنه سبقت هذه الخطوة عدة مؤشرات كانت دالة على أن المجلس لم يكن راضيا عن مبدأ التباري الكامل لفائدة التعيين المباشر الذي كان معمولا به في ظل المجلس الأعلى للقضاء السابق الذي انتهى مع مجيء دستور 2011 وحلول المجلس الأعلى للسلطة القضائية محله، معتمدا في ذلك على الفقرة الأخيرة من المادة 71 من القانون التنظيمي للمجلس التي تبقى استثنائية كما سلف القول، ويمكن استجلاء هذه المؤشرات المعلنة وغير المعلنة منها كما يلي:

إن المجلس في دورتين سابقتين له اعتمد كما قلنا على الطريقة الاستثنائية وتم تعيين العديد من المسؤولين القضائيين بهذه الطريقة، وهي طريقة تم انتقادها كثيرا .

مطالبة المجلس في تقريره السنوي الأول بتعديل المادة 71 من القانون التنظيمي للمجلس والمنظمة لمسطرة الترشح للمسؤولية القضائية .

تحجج المجلس بكون مسطرة الترشح طويلة جدا، وتؤدي إلى بقاء المحاكم بدون مسؤولين قضائيين لمدد طويلة في انتظار الإعلان عن المنصب والتباري .. لكن يرد على ذلك بكون جل المحاكم الآن وفي ظل القانون التنظيمي للمجلس لها نواب معينين من طرف المجلس نفسه، فما سيكون دور النائب أن لم يكن القيام بمهام المسؤولية في حال غياب المسؤول الأصلي .

مما يسود من خلال النقاش المرتبط بهذا الموضوع أن إجراء مقابلة مع المرشحين من طرف المجلس بكامل أعضائه هو مر صعب بالنظر إلى عدم تفرغ عدد من أعضاء المجلس.

مما يثار من نقاش أيضا أن العديد من الكفاءات القضائية لا تترشح عندما يتم الإعلان عن شغور المناصب لعدم انتشار ثقافة التباري بين القضاة. وبالتالي، فإن مسطرة التباري قد تؤدي إلى اختيار عناصر أقل كفاءة .

وإذا كان بعض هذه الحج صحيحة، فإن التعامل معها لا يقتضي إلغاء مبدأ التباري، وإنما المطالبة بتعديل النص توخيا لتجويد المبدأ وتنمية القدرات والوعي لدى القضاة بأهمية مسطرة التباري والترشح لها، مع إقرار آليات تحفيزية لممارسة وظيفة المسؤولية القضائية، لكون العديد من القضاة ينفرون من تولي المسؤولية ليس خوفا من التباري وإنما لانعدام التحفيز المادي والمعنوي وانعدام ظروف ملائمة للعمل بالمحاكم من الناحية الإدارية واللوجتيسك الذي تتداخل فيه جهات أخرى هي وزارة العدل وليس المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو رئاسة النيابة العامة.

ومما تبغي الإشارة إليه، أخيرا، هو أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية وبالموازاة مع إعلانه شغور المناصب القضائية المذكورة، فإنه خفف من بعض الشروط التي سبق له أن اشترطها مثل اشتراط أقدمية 12 سنة من العمل في القضاء، وهو شرط انتقد من طرف القضاة حين وضعه ، حيث تم اشترط الآن في الترشح لبعض المحاكم شرط بلوغ القاضي الدرجة الثانية، أي علميا 08 سنوات من الأقدمية؛ وهو شرط مقبول، وينسجم مع القانون.

عبد اللطيف الشنتوف