أولا: فقه القانون وضرورة سد الباب أمام الطعون

كثر اللغط كما كثر الغلط مع إشاعة الظنون والريبة، مؤخرا، حول وضع المقابلات العلمية ،من أجل الوظيفة والترقية ،التي تجرى في قطاعات متعددة منها العامة والخاصة على حد سواء.

كما كثرت الشكاوى والطعون إما بصورة رسمية ورسائل إدارية مسجلة ،وإما عن طريق وسائل الإعلام المفتوحة ،كمنفذ ومتنفس للتخفيف من آثار وأضرار الغبن الذي يطال المتظلمين ،الذين إما أن يكونوا على حق أو قد يكونون متوهمين لا غير !.

فالمسألة مسألة أمانة وعدالة ،وضمير مهني شريف، ينبغي أن يراعى ويحترم في كل الظروف وعند شتى أنواع الضغوط والاستدراج.وخاصة حينما يتعلق الأمر بأعلى مؤسسة علمية مؤطرة للمجتمع والدولة والإدارة معا وهي الجامعة بلا منافس !

وإذا كان القضاء الذي يمثل محور العدالة والنزاهة في جميع المجتمعات ،وعلى شتى المستويات والقطاعات ،ومع ذلك قد يتحاكم فيه بالتدريج من الابتدائي إلى الاستئناف ثم النقض فلماذا لا تكون باقي المؤسسات على هذا الترتيب في متابعة الحقوق والتحقيق في نتائج المقابلات والاختبارات، ولكن بضوابط موضوعية وعلمية رفيعة لا تترك المجال للتلاعب من كلا الطرفين سواء المشتكي أو المشتكى منه أو هما معا ؟خاصة إن كان الأمر

فيه مناورة وحسابات مطبوخة خارج القانون العام المؤطر للمباريات بكل أنواعها ومستوياتها !!!

إن المسألة جد دقيقة وحرجة ومن الصعب الفصل فيها بسرعة وحكم عابر ،وهي بمثابة الخصومة التي قد تتم بين الزوج وزوجته من داخل الجدران ولا يمكن أن يسمعها حتى الجيران !أو كصفقة بيع ومزاعم تسليم بضاعة مشروطة بغير ضمانات قارة وملموسة.

وحينما يغيب الضامن الموضوعي تكون المسألة مشكَلة ،كمثل صاحب القارب وحيرته بين الذئب والعنْز والكرنب،أي الثلاثة سيقطّعها الوادي بسلام و من غير أن يأكل بعضها بعضا،مع أن القارب لا يحتمل سوى راكب واحد مع الربان.فإن هو ترك الكرنب مع العنْز أكلته وإن هو ترك الذئب مع العنز أكلها،فما العمل إذن؟حلل وناقش.

والمقابلات من أجل التوظيف ،أو الترقية ،قد يغلب عليها واقع نفسي ضاغط بامتياز ،هذا إن كان التباري يتم بين أشخاص متقاربة مستوياتهم ومتقاربة تموقعاتهم وأيضا انتماءاتهم ،فتختلط الذاتية حينذاك بالموضوعية وتتيه البوصلة في تأرجحات لا تكاد تستقر على قرار إلا ما مالت إليه النفس وحبذته مسبقا ،وذلك كاختيار عاطفي وطائفي وجهوي وما إلى ذلك مما لا علاقة له بالعلم ولا بالعدالة بتاتا.

وهذا الأمر ليس مقصورا على المقابلات بالمغرب فقط وإنما هو داء قد يوجد حتى عند أكثر الدول التزاما بالعدالة والديمقراطية والنزاهة العلمية من أوروبية وأمريكية وغيرها !وذلك لأن الإنسان يبقى إنسانا ضعيفا أمام المغريات والمؤثرات مهما كان مستواه طالما لم يضبط بضابط مادي رياضي مراقب من أعلى ومن كل الجوانب والنواحي وضابط روحي أخلاقي نابع من الالتزام بالضمير المهني.

ثانيا: الملف العلمي وإشكالية تحديد الأولويات في الاعتبار

فعلى سبيل المثال أقترح نموذج المقابلات الجامعية المخصصة للتوظيف ومنح منصب مالي أو ترقية داخل الجامعة ،وأناقش هنا بعض الاختلالات التي قد تطالها ،ليس بسبب الأشخاص ونزاهتهم ،فهذا مستبعد لحد ما ،ولكن بسبب القانون المنظم لها كضابط موضوعي يمكن بواسطته تحقيق العدالة في الانتقاء ولو بنسبة سبعين في المائة .

بحيث قد لا يوجد سلم رسمي يحدد الأولويات الرئيسية في انتقاء الملفات أولا ثم مراعاة مستوى المقابلة الشفهية ثانيا.وذلك حينما تكون الملفات متنوعة العطاء والمرتكزات ،وهي تتأرجح بين سيرة ذاتية موثقة إداريا وأخرى مسرودة من طرف المترشِّح بدعوى مشاركته في نشاط ما أو تدريس مواد ما أو ندوات وما إلى ذلك.وغياب هذا الجدول المحدد للأوليات في التنقيط والترتيب قد يدفع ببعض المناقشين إلى وضع سلالم خاصة بتصوراتهم قد يتفقون عليها وقد لا يتفقون ،وفي بعض الأحيان يتخاصمون !

فيكون الاختلاف حول: هل تجربة التدريس أولى بالتنقيط الأعلى أم التأليف؟ كما هل التأليف ينبغي أن يكون موافقا للتخصص أم أنه مجرد كتابة عامة وتنوع أنشطة يركم بها الملف لكي يضخم وينافس الآخرين؟ثم هل الندوات مقدمة على المقالات أم العكس ؟ونفس الشيء: هل هي ندوات علمية متخصصة أم مجرد لقاءات دولية ورسمية تطبع بختم أحمر يؤكد هذا الحضور أو ذاك؟.فيبقى حسم الأمر بهذا الاختلاف مهزوزا واتخاذ القرار فيه دخن مهما توافق المناقشون والمحكمون.

ولهذا أقترح للخروج من هذه الدوامة والقلق المنغص للضمير أن تصدر الوزارة الوصية جدول تنقيط محدد، بالتشاور مع الأطر العليا من الأساتذة الباحثين، يكون ملزما لكل المشرفين على المقابلات في مجال انتقاء الملف العلمي الذي ينبغي أن يكون هو الأقوى ابتداء ،وبنسبة تنقيط قد تصل إلى سبعين بالمائة(70%)أو أكثر من مجموع النتيجة المطلوبة للنجاح وتفضل30 % أو أقل للمقابلة العلمية.ولا يبقى الأمر هكذا مفتوحا بحسب مزاج أو تصور كل مناقش سلمت مقاصده أم لم تسلم !إذ نحن هنا لا نصادر النوايا ولا نتهم أحدا ،لأن هذه المصادرة أو الاتهام إن صدر قد يعود على كل أستاذ ويطاله كيفما كانت نزاهته ومستواه ،فكما تدين تدان ،لكن لا بد من الضابط الملزم وإلا فتحنا علينا كأساتذة باحثين باب الريبة والطعون الجزافية بغير دليل قاطع ولا ناصع .

ثالثا:المقابلة العلمية ومقترحات تفادي التضارب والطعون

وحتى إن تحقق هذا المطلب واستقر عليه الرأي فإن لب المشكلة ينحصر في المقابلة العلمية الشفهية والتي هي بمثابة خلوة ممتحني رخصة السياقة بالمترشحين لها ،والتي قد أصبحت محط النقد العام مع الاتهام بأخذ الرشاوى المباشرة كما يشاع ويذاع .فالممتحن هنا

لا يراقبه أحد وليس معه شاهد،بحيث لو افترض الخطأ أو افتعله فلا دليل على ذلك وإنما هو وضميره ،وهذا الحكم لا يؤسس للعدالة ولا للنزاهة ولا للاطمئنان على النتيجة.كما أنه لا يسمح بالطعن طالما لا يوجد دليل مادي واحد مدعم.

لكن الأمر بالنسبة إلى الأساتذة أوسع من هذا المضيق لأن اللجنة قد تتألف من عدة أساتذة متخصصين ومنحدرين من شتى المدن والمؤسسات ،مع ذلك فقد يحدث ما يحدث من تدافع

إما على مستوى طائفي أو جهوي أو لغوي وما إلى ذلك ،وهذا قد يؤثر على نزاهة النتيجة في بعض الأحيان.

كما أن جدول الأسئلة قد يكون عفويا وارتجاليا في كثير من المرات ناهيك عن وجود بعض الدوافع للتعجيز وإسقاط المترشح عنوة منذ البداية إن كانت هناك نية في ترسيبه !

وهنا يكون المطب ويعكّر المصب ولا يكاد يتفق بعض المناقشين مع بعضهم في تقييم النتيجة ،أو أنهم قد يتفقون على غير قاعدة مضبوطة حينما يكون هناك شبه اتفاق على أن فلانا أو فلانة أولى بالمرور منذ البداية.فيقع الظلم وتخترق الموضوعية والمصداقية ويتناسل معها الطعن وقيل وقال !

وللخروج من هذا المأزق المتكرر ومناصفة المتضرر أقترح الإجراءات التالية:

أ- الالتزام بالربط بين نتيجة الملف العلمي وما يتلوه من تنقيط المقابلة.

ب- وضع جدول أسئلة مركزة وموحدة على نمط محاور متوافق عليها بين الممتحنين توجه إلى المترشحين بالتساوي عدالة.كما ينبغي تفادي الأسئلة الجزئية التعجيزية أو القابلة للنقل و التسريب والغش.

ت- توفير المدة الزمنية الكافية والمتساوية لكل مترشح على حدة كي يعبر عن مستواه وعمق تخصصه.

ث- رفع مستوى المناقشة الأدبي والالتزام باللغة المدْرجة في المقابلة على أعلى مستوى لإعطاء الامتحان قيمته وهمته مع تفادي الخطاب العشوائي بالدارج وما قرب منه ،سواء كانت المقابلة بالعربية أو الفرنسية والإنجليزية ومعها الأمازيغية.

ج- تغييب كل شكل من أشكال الترحيب أو الترهيب على حد سواء من أجواء المقابلة حتى لا يغرر بالمترشح ولا يكبت فكره وعرضه.

ح- تسجيل مجريات المقابلة تقريرا كتابيا رسميا،مع إضافة ،وهذا المقترح الجديد الذي أود أن يعمل به،التسجيل السمعي البصري للمقابلة تحتفظ به الإدارة ولا يدلى به إلا عند وجود طعن رسمي في النتيجة.

وأرى أن هذا المقترح الأخير قد يكون أكثر فعالية وسدا لكل تشويش وإساءة للجامعة بإدارتها وأساتذتها ومترشحيها على حد سواء.لأنها ستمثل أحسن شاهد على النزاهة والمصداقية وهي كما يقول الصوفية تشخص لنا "عين اليقين".

فإذا كان مديرو كرة القدم أو باقي الرياضات عند التباري يستعملون هذه الوسيلة للتحقق من النتيجة وتصحيحها ،مع وجود الحكام وكفاءاتهم ،فلماذا لا نخضع مقابلاتنا العلمية التي هي أولى بالشفافية والعدالة لهذا المقياس الفيزيائي والعلمي الحديث؟هل نخاف من الحقيقة أم لا نريدها أم نسعى لنقبرها؟.

أرى أن الأمر ينبغي أن يؤخذ بجدية صارمة حفاظا على كرامة الأستاذ والجامعة والطالب والوطن ككل .لأن مصداقية الجامعة هي المؤسس لمصداقية كل مؤسسة في هذا البلد وسائر البلدان.

يا معشر العلماء يا ملح البلد

ما يصلح الملح إذا الملح فسد

والله الموفق لما في خير ومصلحة البلاد والعباد.



 محمد بنيعيش