اختار المغرب نظام الجهوية الموسعة ودستره ليضمن استمراريته ونجاعته. وتُعد التجربة الألمانية النموذج المُغري للمغرب في بناء الجهوية الموسعة، من جهة لاحتواء آمال الانفصاليين الصحراويين، ومن أخرى لتخفيف الضغط عن المركز. ويختلف نظام الجهوية في ألمانيا عن نظيره في فرنسا، ففي ألمانيا يتم اعتماد الجهوية السياسية، بينما فرنسا تعتمد الجهوية الإدارية. فهل المغرب مؤهل للجهوية السياسية المعتمدة في ألمانيا؟ الجواب يقتضي إدراج مثال واحد لتوضيح مهام الجهات في ألمانيا حتى تتضح الأمور.

في ألمانيا 16 جهة، وهي بمثابة جمهوريات قائمة الذات ومستقلة في قراراتها وبرامجها ومخططاتها عن المركز. للجهة برلمان منتخب ديمقراطيا يمارس صلاحية التشريع بكل حرية واستقلالية عن المركز، فضلا عن مهام الرقابة، ولها كذلك حكومة منبثقة عنه تمارس سلطتها التنفيذية التي يخولها لها الدستور؛ ففي مجال التعليم مثلا لكل جهة برامجها ومناهجها وسنوات التدريس في الابتدائي، إذ البرلمان هو الذي يحدد البرامج والمناهج ويقرر المستوى الدراسي الذي يتم فيه تعليم التلاميذ اللغة الأجنبية الثانية، بل يحدد اللغة الأجنبية الثانية التي تدرّس للتلاميذ ومتى تدرّس؛ فليست الحكومة الفيدرالية التي تضع البرامج التعليمية، ولكنها الحكومة المحلية.

ويتميز التعليم في ألمانيا بالمساواة التامة بين التلاميذ، إذ لا وجود للتعليم الخصوصي ولا للساعات الإضافية المؤدى عنها؛ كما أن المدرسين هم من يوجهون التلاميذ إلى الشعب التي تناسب مؤهلاتهم وقدراتهم العقلية. كما أن التعليم إجباري إلى حدود السنة التاسعة، أي نهاية مرحلة الإعدادي؛ فهل الظروف السياسية والاجتماعية في المغرب تسمح بممارسة نظام الجهوية السياسي؟.

1/ على مستوى التشريع: إذا كان البرلمان، كمؤسسة تشريعية مركزية لعموم الشعب المغربي، ويتنافس من أجل العضوية فيه أزيد من ثلاثين حزبا سياسيا، يضم 100 عضو لا يتوفرون على شهادة البكالوريا، ما يعني أن مستواهم التعليمي والمعرفي لا يسمح لهم بالتشريع ولا بالتخطيط للأجيال القادمة، فكيف ستكون البرلمانات الجهوية؟ وإذا عجزت الأحزاب السياسية عن تقديم مرشحين بمستويات تعليمية عالية للعضوية في البرلمان الوطني، فهل ستنجح في ترشيح ذوي الكفاءة العلمية والمعرفية إلى البرلمانات الجهوية؟ وإذا كان ثلث الشعب المغربي أميّا، فكيف له التمييز بين برامج الأحزاب وخطاباتها حتى يحسن الاختيار بين المرشحين؟.

إن مسألة تشريع القوانين ووضع البرامج والإستراتيجيات تختلف كليا عن التدبير اليومي للشأن المحلي، فالتشريع يقتضي إلماما جيدا لدى النواب بالمواضيع واطلاعا أوسع بتجارب الشعوب الأخرى، واستشرافا دقيقا للمستقبل ورؤية إستراتيجية بناء على نتائج الدراسات والأبحاث التي همّت قطاعات معينة أو اتجاهات فئات اجتماعية محددة؛ وهذا لا يتأتى لذوي التعليم المحدود.. فكيف لهؤلاء مثلا أن يقرروا في لغة التدريس والمواد المدرّسة وسنوات التمدرس وإحداث التخصصات والشعب وآفاق الجامعات والمعاهد؟ بل أية برامج تعليمية ستُفرض على التلاميذ المغاربة لو كانت لحزب العدالة والتنمية كل صلاحيات الحكومات الجهوية الألمانية؟.

2/ على مستوى التسيير: تعرف المجالس المنتخبة في عموم التراب الوطني فضائح النهب وسوء التسيير والفساد والتبذير، ورغم التقارير، على محدوديتها، التي أعدها قضاة المجلس الأعلى للحسابات، لم تتم محاسبة المتورطين تطبيقا للدستور الذي ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة. وتكفي إطلالة سريعة على أبواب صرف الميزانيات ليتضح حجم النهب والتبذير الذي تتعرض له. إن التواطؤ مع الفساد والتستر على المفسدين وناهبي المال العام لن يحدّا من النهب والتبذير بل سيشجعانهما؛ لهذا فإن أسس إقامة الجهوية ليست هي تشكيل مؤسسات وإعداد نصوص تنظيمية، بل الحزم في تطبيق القانون ومحاسبة كل المسؤولين على طريقة تدبيرهم للشأن العام وأوجه صرف الميزانية. وقبل هذا وذاك لا بد من بناء المواطن المتشبع بقيم المواطنة وثقافة حقوق الإنسان، فالنصوص القانونية والدستورية وحدها لا تكفي لبناء مجتمع ديمقراطي.. المواطن الذي يبيع صوته في الانتخابات أو الذي يجعل مصلحة الحزب/الجماعة فوق مصلحة الشعب والوطن لن يساهم في بناء مجتمع ديمقراطي يتصدى للفساد بوعيه وأخلاقه قبل القوانين.

إن التربية على الديمقراطية والمواطنة تتم أساسا داخل المدرسة، فهل التعليم بالمغرب يساهم في تنشئة التلاميذ على المواطنة والنزاهة واحترام القوانين؟ نحن أمام أنواع من التعليم والبرامج والمناهج لا ناظم بينها، بل تزيد المجتمع تمزقا بأن تشكل فئات متنافرة من المواطنين لا يجمعهم حب الوطن والصالح العام. من هنا فنظامنا التعليمي نظام فاشل، بخلاف النظام التعليمي في ألمانيا.

كيف لنظامنا التعليمي أن يسهم في بناء مواطن ينتمي إلى عصره ومتشبع بقيم الإنسانية والمواطنة وشعبة التعليم الأصيل/العتيق والدراسات الإسلامية تعيد تشكيل تفكير ووجدان وذهنية التلاميذ والطلبة في تنافر تام مع قيم العصر ومدنيته، وتطلع مهووس إلى قيم البداوة وأعرافها الاجتماعية؟.

لا جهوية إذن دون ديمقراطية؛ ولا ديمقراطية دون التنشئة على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وكذا الربط الصارم بين المسؤولية والمحاسبة.

 

سعيد الكحل