ما هي المكاسب العربية من دفع تكاليف صفقة القرن؟

كثيرًا ما يتم التنظير لوجوب وضع الخلافات الفلسطينية الداخلية جانبًا، ولأهمية ترتيب البيت الفلسطيني، في مواجهة التحديات الكبرى التي تتربص بالقضيّة الفلسطينية، وفي مقدمتها صفقة القرن، المشروع الأمريكي الأحدث لإنهاء القضية الفلسطينية، ويشكل الرفض الفلسطينيُّ لها قاسمًا مشتركًا والرأي الأبرز لمختلف التيارات والفصائل الفلسطينيّة وصولًا إلى السلطة، وبعيدًا من دوافع الرافضين المختلفة يظلّ الرفض سمة المكون الفلسطيني المعني بهذا الملف أولًا وأخيرًا.

هذا الرفض الفلسطيني يتجلى في عددٍ من ميادين القضية، فمنها مسيرات العودة الأسبوعية في غزة، والموقف الواضح للفصائل الفلسطينية، والرفض الكامل لما قامت به السلطات الأمريكية من التمهيد لهذه الصفقة، فمن رفض نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ورفض استهدف وكالة الأونروا في سياق إنهاء عملها، وغيرها من المحطات التي تُظهر لحمة فلسطينيّة في مواجهة هذه المؤامرة الكبرى، وهو رفضٌ ينطلق من رفض الهيمنة الأمريكيّة ورفض الاحتلال. ومع رفض شطر المعنيين بتطبيق الصفقة، على افتراض أنها ستقام بين الطرفين الإسرائيلي المحتل والفلسطيني الأصيل صاحب الأرض، لماذا يتم التجييش لها من قبل دوائر عربية وأمريكية، على الرغم من الرفض الفلسطيني لها؟

هذه الجبهة الفلسطينية المختلفة إيديولوجيًا والمنسجمة عمليًا أمام هذا التحدي، نجد مقابلها جبهةً أخرى عربية، تقوم على الترويج للصفقة ورعايتها، بل على ممارسة الضغوط المتتالية لتمرير بنودها، وتحويلها إلى أمرٍ واقع. وتُشير التسريبات الكثيرة والمواقف المعلنة إلى رفض عربي لا بأس به لهذه الصفقة، ولكن الضغوط العربية التي تتمظهر بالمال حينًا وبالتهديد بالسلطة الدينيّة التي تقتحم ملف المقدسات في القدس حينًا آخر، تعمل على ثني هذه المواقف الفلسطينية أو العربية، حيث أشارت تسريبات نشرتها صحيفة الأخبار اللبنانية عن ضغوط سعودية مورست على الأردن، وعن عرض مليارات الدولارات من المشاريع والهبات في إطار قبوله بهذه الصفقة.

فلنعد إلى الطرف المروج أو الراعي، وهو على كل حالٍ الطرف الممول كما تشير التسريبات، فلا توحي إدارة ترمب بأنها ستقوم بتمويل تلك العروض الهائلة التي ستقدم للأردن أو للسلطة الفلسطينية أو للدول الأخرى التي تحتضن اللاجئين الفلسطينيين، أو ما يتصل بما سُرب من تفاصيل الصفقة، من تبادل الأراضي مع مصر، يأتي السؤال الملح: ما هي مصالح هذه الدول؟ وما المردود الذي سيتأتى مقابل تقديم مليارات الدولارات على شكل قروضٍ أم معونات وهبات؟

تتصدر المملكة السعودية القطار العربي الراغب بالترويج للصفقة، إذ أشارت تسريبات صحفية عن مشروع لتبادل أراضٍ بين السعودية والأردن، مقابل تقديم الأخير أراضٍ للدولة الفلسطينية الموعودة، إضافة إلى أن احتضان مملكة البحرين للورشة الاقتصادية في 25-26 يونيو (حزيران)، هو جزءٌ من هذه الإرادة السعودية، حيث لا تخرج البحرين عن سياسات السعودية قيد أنملة، ما يجعل الورشة سعودية بامتياز، ولكنها مقامة في أراضٍ شقيقة.

لا يمكن حسم فوائد هذا الانخراط أو مردوده بشكلٍ قاطع حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولكن عددًا من المعطيات يمكن أن يدل على ما تخطط له السعودية من هذه الصفقة، وفي مقدمتها التغييرات الكبيرة التي تشهدها المملكة خلال العامين الماضيين، وهو تغييرٌ سياسيّ لم تشهده المملكة منذ تأسيسها، من خلال استلام جيل الأحفاد زمام الأمور، وتحييد أبناء المؤسس، ما يدفع إلى تقديم المزيد من القرابين للقيادة الأمريكية، وهي قيادة ترى أن خدمة مصالح الاحتلال في المنطقة هي الأولوية المطلقة، الأمر الذي يجعل السعودية تتسق لهذا الحد مع الصفقة على الرغم من ضبابية الطرح، وعدم تقديم أي بند من بنودها بوضوح.

وفي سياق التغييرات السعودية، دخول الأخيرة في مستنقع اليمن وعدم قدرتها على حسم نتائج المعركة حتى اليوم، وأمام مختلف هذه المعطيات يمكن أن نستعرض وجهة النظر السعودية التي ترى في إسرائيل بديلًا عن الولايات المتحدة الأمريكية بعد تراجع الأخيرة الكبير في المنطقة خلال الأعوام الماضية، ومحاولة السعودية إيجاد بديلٍ يستطيع مشاركتها عداءها لإيران، الأمر الذي يجعل الانسياق مع الاحتلال ومع الطرح الأمريكي في استهداف القضية الفلسطينية ركيزةً للسياسة السعودية.

ولعلّ أول ملامح التقارب الكبير مع الاحتلال، تلك الزيارات التي قادها الأكاديمي والجنرال السابق أنور عشقي خلال عام 2016، وهي زيارات شارك فيها عدد من رجال الأعمال والأكاديميين السعوديين، والتقى بأمين عام وزارة خارجية الاحتلال حينها دوري غولد وغيره من مسؤولي الاحتلال، وعددٍ من النواب في الكنيست الإسرائيلي.

 

وفي نهاية شهر مارس (آذار) 2018 وبالتزامن مع زيارة ولي العهد السعودي محمـد بن سلمان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التقى الأخير بعددٍ من المؤسسات اليهوديّة، وسربت بعض مضامين كلمة ابن سلمان، التي تضمنت نقدًا للقيادة الفلسطينية، وللمطالبات الفلسطينيّة قائلًا: لقد حان الوقت لكي يقبل الفلسطينيون المقترحات، ويوافقوا على القدوم إلى طاولة المفاوضات، وإلا فسوف يصمتون ويتوقفون عن الشكوى. وفي هذه الرحلة أجرى ابن سلمان مقابلة صحافية نشرتها صحيفة ذي أتلانتك، اعترف فيها بحق الشعب اليهودي بإقامة دولة قومية، وأشار إلى وجود الكثير من المصالح الاقتصادية التي يتشاركها مع دولة الاحتلال.

ومن ملامح التقارب السعودي الإسرائيلي، تعليقات الاحتلال على أثر جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، حيث نقلت صحفٌ عدة تصريحات لرئيس حكومة الاحتلال شدد فيها على خطورة زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية، وأكد أن زعزعة استقرار المملكة يعني زعزعة استقرار العالم، وهو تصريح خرج من رأس السياسة الإسرائيلية، في وقتٍ كانت تعاني فيه السلطات السعودية تخبطًا كبيرًا، واتهامات بانتهاك الأعراف الدولية.

وفي سياق التقارب السعودي الإسرائيلي، شهدت شبكات التواصل الاجتماعي حملات موجهة تهدف إلى تحويل الوعي السعودي، وإبراز التطبيع مع الاحتلال على أنه مطلب جماهيري عام، أو لإظهار مقدار التقارب بين الجانبين على الصعيد الشعبي، والترويج أن السعوديين يريدون السلام مع الاحتلال، إضافة إلى الهجوم على المقاومة الفلسطينية، وتشويه صورة الفلسطيني ومواجهته الاحتلال، وعلى الرغم من أن الكثير من هذه الحملات يقودها ما بات يعرف بالذباب الإلكتروني، فإنها جزءٌ من الصورة العامة التي تعمل على إعادة صياغة الرأي العام السعودي، والانسياق بشكلٍ أكبر مع الاحتلال.

هذا التقارب الكبير وغيره من الصور والشواهد، يأتي في سياق العداء السعودي مع إيران، وتزايد الاصطفاف خلال المدة الأخيرة، ما يجعل السعودية تجد في الاحتلال الإسرائيلي شريكًا أساسيًا مهمًا، ضاربةً بعرض الحائط أي حقوقٍ أو مطالب للجانب الفلسطيني. ومهما كان السخاء الأمريكي الذي أعلن أن تمويل الصفقة سيكون عبر تقديم منحٍ بـ15 مليار دولار، إضافة إلى قروضٍ مدعومة بقيمة 25 مليار دورلار، و11 مليار دولار من القطاع الخاص، إلا أنّه لن يكون إلا محاولة لشراء الرضا الفلسطيني بالمال، وهو ما لا يمكن أن يحصل أمام صلابة الموقف الفلسطيني.

إن ما تخطط له السعودية من هذا التقارب لن يكون إلا شراء ما لا يمكن أن يُشترى، وتعميق الأزمة التي تعيشيها القيادة السعودية في الداخل، أو ذلك الموقف مع الشعوب العربية، التي وجدت في المملكة وحلفائها رأس حربة في وجه الربيع العربي، وهو دورٌ استفادت منه إسرائيل، عبر إِشعال المنطقة في صراعات داخلية، جعلت الاحتلال بؤرة الأمان الوحيدة في محيطٍ مشتعل.

يريدون شراء فلسطين بثمنٍ بخس، وأصحابها لا يبيعون شبرًا منها بكنوز الدنيا، ليست مزايدة ليربح من يدفع السعر الأعلى، بل القضية لمن يقدم الأغلى، وليس هناك أغلى من الروح والدم، وهو ثمنٌ تعود الفلسطينيون على دفعه منذ 70 عامًا.

علي إبراهيم