نداءات ولاءات:

توالت وتتوالى منذ سنوات النداءات الملكية- في المناسبات الرسمية- إلى حكام الجزائر، بضرورة التفكير الجدي في إقلاع مغاربي جديد، على أسس سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة؛ ما دامت دينامية الأسس الأخرى فاعلة، وبقوة، ولا يمكن لأحد أن يعطلها: الدين، اللغة، التاريخ والمصير المشتركان، التحديات الواحدة، والكفاح المشترك ضد مستعمر الأمس.

ولولا دينامية هذه الأسس، المتعالية عن التخريب، ما قبل ملك المغرب أن يكون مغاربيا ملحاحا إلى هذه الدرجة.

توالت "وامغارباه" حتى جاز أن نتحدث عن ملك النداءات المغاربية، ودولة اللاءات العسكرية، محمرة العينين:

لا لتطبيع العلاقات مع الأخ الشقيق؛ لا للفرحة التي تنتظرها، وتستحقها، الشعوب المغاربية؛ لا لقَطْر الأخوين الشقيقين للتنمية المشتركة، حتى لدى الأخوين الصغيرين: تونس وموريتانيا.

ولا وألف لا لإستراتيجيه مغاربية موحدة لحل مشاكل الشقيقة ليبيا؛ التي تَلَغُ فيها أطراف متعددة على هواها؛ وكأن ليبيا عالم جديد مكتشف، تُشد إليه كل الرحال، عدا المغاربية.

وكأن الاقتتال في ليبيا، وكذا السلم بها، لا يعنيان لنا شيئا؛ وكأن الغول، الذي يركب فيها قطعة قطعة، لن يدوس حدودنا جميعا.

ولا أيضا للاستثمار المشترك في حوض البحر الأبيض المتوسط؛ بعيدا عن فضائح الغرقى الاقتصاديين، وهي فضائح مغاربية مشتركة على أي حال.

لم يحدث أن كان بحر الحضارات الإنسانية القديمة هذا، بحرا لـ"لحريك" الانتحاري، كما يقع في أيامنا هذه، جراء هشاشة الأوضاع الاقتصادية، بفعل فشل النماذج التنموية المغاربية الأحادية والمنغلقة.

كم من سياسة قضيناها بتركها:

أو قلْ وخَرَّت على دولة العسكر السياسة من تحتها، على غرار "وخر عليهم السقف من تحتهم" المشهورة ضمن نوادر علماء القرويين.

يدفع كل هذا العقم السياسي، وهذا الهدر للزمن المغاربي، إلى توتير عدد من الأسئلة:

*أي ضرر أصاب الجزائر من معاودة دولة المغرب التمدد في صحرائها؛ حيث لا يوجد غير مواطنيها؟

*ماذا تستكثر الجزائر على المغرب، الصحراء الخريطة، أم سكانها؟.

*لماذا لا تتحدث الجزائر عن استفتاء الخريطة الثابتة، وليس استفتاء الناس، العابرين كما اتفق؟.

(سبق أن أجرى تيودور مونود مثل هذا الاستفتاء، انطلاقا من تافيلالت، وخلص إلى نتيجة مفعمة بالمعاني؛ يتضمنها مقالي: "في تندوف ثلاث مدن مغربية" ورابطه)

هاهو الحراك اليوم يقول كلمته، أو فتواه في قادة الدولة الجزائرية؛ فلماذا لا تستجيب لهذا الاستفتاء العفوي، وتمارس "الهاراكيري" الياباني في قلب العاصمة الملتهب؟.

في هذه يكرر قائد الأركان والدولة تمسكه بوحدة الجزائر، بالمؤسسات، والدستور؛ وهل تفعل المملكة غير هذا؟.

*لماذا لا ينتبه حكام الجزائر إلى أن من يبني حضارة الصحراء ليس كمن يستجدي العالم ببعض ساكنتها المحتجزين؟.

أين الأوزان الثقيلة، من السياسيين الجزائريين الأحرار، حتى يوقفوا برامج مدرسة البلاهة السياسية هذه؟.

وسؤال الأسئلة:

*هل كل ما يعوز ساكنة الخريطة المغاربية وفرناه، ولم يبق غير استنبات دولة جديدة، في صحراء قاحلة؟.

دولة جديدة فاتحة لدول لاحقة: القبائل، الاباضيون، الصفريون إن وجدوا، الزنتان، ثم دولتا بنغازي وطرابلس بليبيا، وربما دولة بجبال الشعانبة التونسية؛ وهلم دولا حتى تهترئ الخريطة المغاربية كلها، ويصير عددها بعدد الثكنات العسكرية، التي لا يرتاح قائد الأركان إلا فيها وبها؛ ويصبح عدد الرؤساء بعدد أصابع اليدين والقدمين.

حيث فشلت وحدة الدول الخمس الكبرى، يمكن أن تنجح وحدة العشرين دولة أو الثلاثين دولة.

هذا ممكن فقط في السياسة التي تخر على القوم من تحتهم.

من أين كل هذا الدهاء السياسي؛ وهذه الجدية في خدمة الإرهاب المتربص بكم، ولا ينتظر غير خرائط الفشل كالتي ترسمون، ليتمدد بها على هواه، بل هوى حُداتِه؟.

هل هذا ما تريدون حقا؛ حينما تتوالى لاءاتكم، أم هناك أسرار تفوق مداركنا، كشعوب مغاربية، صدقت أن ثمار حركات التحرر المغاربية لن تكون لغيرها؟.

وما ردودكم على الحراكات الأخرى؟

إذا كنتم صادقين في انتمائكم العربي؛ وغير كاذبين إلا في انتمائكم المغاربي.

ألسنا كلنا في الهم شرق، كما ذكر الشاعر العربي؟

ألا يخدم حراك لبنان حراك الجزائر، والعكس صحيح؟

ألم تتحول "يتنحاو كاع" الجزائرية إلى "كلن يعني كلن" اللبنانية؟

وحراك العراق ألا يخدمهما معا، ويخدمانه؟

وهل نسينا حراكات الربيع العربي، التي ظلت ماسكة بتلابيب بعضها البعض؟.

كفى من الرعد الكاذب يا قيادة الأركان والدولة في الجزائر، فلن تستطيعوا رد هذا البحر الهادر، إلا بركوبه متحدين، وبأقوى وأنجع السفن الموصلة إلى جزر الأمان والاطمئنان.

إن إعادة نظر جذرية في سياساتكم، الشوفينية حد التوحش، باتت أمرا حيويا لكم وللمنطقة المغاربية والعربية والمتوسطية والإفريقية كلها.

لقد جربتم الحرب الأهلية، وفحش ثروة المحروقات، ثم شحها اليوم؛ كما جربتم بناء دولة كاملة على كراهية جيرانها؛ وها أنت تجربون حراكا مزمنا لا يطالب بغير رحيلكم؛ حد غض الطرف عن المسروق..

ألا تجربون دخول أكاديمية المغرب السياسية، للعمل ضمن فريق مغاربي؟.

ألا تجربون محبة شعبكم، حد التعفف عن حكمه عسكريا؟.

ألا تجربون محبة الشعوب المغاربية، حتى تنهضوا لتحريرها من الفقر، والانتحارات الاقتصادية في هذا الأبيض المتوسط الذي سادت على ضفافه حضارات من أروع ما أبدعت الإنسانية؟

إن من لا يستجيب لنداءات جاره، وهو عالم بصدقيتها، وواثق من حجيتها، كأنه حمالة حطب لا ينتظر منها غير إضرام النار، و"دق عطر منشم".

اللهم اشهد أنها من ملك النداءات البناءة، إلى دولة اللاءات الهدامة.

 

رمضان مصباح الإدريسي