المثابرة المفاجئة والتنظيم التلقائي وانضمام كافة الأجيال الى مسيرة الثورة اللبنانية أدّى الى صدمة السياسيين الذين افترضوا ان هذه فورة انفعالية عابرة ستَزول حتماً. صُدِموا، لكنهم ما زالوا يُراهنون على انهاكٍ حتمي، في نظرهم، سيضطر بالمتظاهرين الى العودة الى بيوتهم وتعود المياه الى مجاريها الوسِخة ليعود الملوّثون من رجال السلطة الى القهقهة في نظام النهب والفساد والى الهيّمنة على موارد ومصير البلد.

ثورة الأجيال المتداخلة خلقت واقعاً جديداً يرفض رجال الحُكم الإقرار به، عنوانه: انتهت حقبة اللامحاسبة والانصياع الى ما يطلبه الزعماء. وبالرغم من إنكارهم ما آلت اليه مسيرة الثورة من إنجازات، ان رجال السلطة وزعماء الطائفية يرتجفون في أحضان الهلع لعدة أسباب، وحقاً عليهم أن يخافوا، ويخافوا كثيراً. ذلك ان الاضطراب الاجتماعي الآتي سيؤدي الى هستيريا جماعية فوضوية غوغائية mob hysteria ضدهم وضد المقرّبين منهم عندما يتداخل الانهيار المالي مع الانهيار الاقتصادي وينفذ مخزون المحروقات والمنتوجات الغذائية في غضون شهر أو شهرين وتقع كارثة اقتصادية واجتماعية. شباب الثورة لن يكونوا مصدر هذه الكارثة أو الهستيريا، ويجب عليهم اتخاذ كل التدابير كي لا تكون هذه الثورة الجميلة مصدر عقلية التجمّهر الغوغائي mob mentality بهدف التدمير والانتقام. لكن تقاعس أهل السلطة في استيعاب ما أدت اليه أنماط التضليل والنفاق والاستعلاء والجشع سيجرّ الغاضبين من الناس والجائعين بسببهم والناقمين عليهم الى هستيريا انتقام ضدهم يجب أن يخافوا منها، ويخافوا كثيراً. الاعتقاد ان شراء الوقت تحت وَهِم تبخّر الثورة في نهاية المطاف إنما هو غباء خطير لأن الثورة اليافعة لن تُنهَك وإنما الإنهاك سيصيب عجزة ابتزاز نظام الحكم في لبنان لخدمة مصالحهم. مماطلة رئيس الجمهورية ميشال عون في تكليف رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري – أو غيره – بتشكيل حكومة حلول جديّة تكنوقراطية في وسعها وحدها أن تنقذ لبنان من الانهيار التام، إنما هي مماطلة مصيرية له لأنه بذلك سيُحمَّل مسؤولية القيام عمداً بإغراق لبنان في حفرة المجهول والفوضى. انه في حالة اللاوعي إذا كان ميشال عون يظن ان التسويف سيكون لصالحه أو لمصلحة صهره جبران باسيل الذي أدّى طموحه وعنجهيته الى تآكله. القيادة الإيرانية في طهران تبدو في غاية الارتباك نتيجة خوفها من انفجار داخلي ومن انتفاضة ضد النظام تشجّعها ثورات لبنان والعراق، لذلك تقول المصادر ان ما تدرسه هذه القيادة هو تأجيجٍ ما خارج إيران كي تُحوّل الأنظار بعيداً عما يحدث في الداخل الإيراني. استهداف الناقلات ومواقع حيوية في الخليج خيار مفتوح، كما تقول المصادر. أما لبنان، فإنه ساحة الحسابات الدقيقة لأن "حزب الله" ورقة ثمينة جداً لدى رجال الحكم في إيران، وهم مصرّون على بقاء لبنان تحت نفوذهم عبر زيادة سيطرة "حزب الله" على أية حكومة في لبنان، كما نقلت مصادر مقرّبةً منهم مضيفة ان قرارات مهمة ستصدر في هذا الاتجاه بعد اجتماع للقيادة الإيرانية حول لبنان يوم الاثنين المقبل، قد تُسفر عن قرار تعطيل الثورة اللبنانية والإطاحة بها كيفما كان.

القيادة الإيرانية قررت حتى الآن أن تعتبر أن الثورة في لبنان هي ضد الفساد وليس ضد "حزب الله". هذا التفكير يُناسبها لأن الأفضل لها، تكتيكياً، الهروب الى الأمام، مرحليّاً، ريثما يتوضح مدى قدرة الثورة على التماسك في وجه الصعوبات التي ستواجهها سيما على ضوء الانهيار المالي والاقتصادي. السؤال في ذهن القيادات الإيرانية، حسب أحد المصادر، هو "نوعية الاستقرار" ما بعد "الانفجار العاطفي" في الشارع اللبناني و"ما هو موقع حزب الله" حينذاك.

الأولوية الواضحة في طهران هي أنه يجب على "حزب الله" أن يُضاعف سيطرته على الحكومة اللبنانية وأن يضع لبنان بأكمله تحت نفوذه. انهم في طهران مقتنعون ان كل ما حدث ويحدث في الثورة لن يؤثر على الهدف الأساسي، أي سيطرة وهيمنة "حزب الله" على لبنان. استخفاف قادة طهران بالثورة اللبنانية إنما هو قرار وهدف ووسيلة بغض النظر ان رآه البعض دفناً للرؤوس في الرمال، أو غيبوبة عن الواقع والواقعية، أو تغطية على ارتباك وقلق وخوف عميق من انفجار داخلي في إيران ضد قادة النظام في طهران.

هؤلاء القادة سيلجأون الى إجراءات كبرى في الخارج لتحويل أنظار الداخل الإيراني عن إخفاقات النظام وسياساته التي أسفرت عن خناقٍ اقتصادي وعزل وتطويق. انهم يتحدثون عن تطوير قدرات إيران النووية لاستفزاز إجراءات نوعية ضد إيران تحشد العاطفة القومية بجانب النظام. يمهّدون لخطوات الانسحاب من الالتزامات ضمن الوكالة الدولية النووية – أو هكذا يوحون ضمن استراتيجية الاستفزاز والابتزاز. الشق الثاني من الشهر الجاري ما زال خطيراً على القيادة في طهران بسبب تدهور الوضع الاقتصادي نتيجة العقوبات، ولذلك يجب مراقبة إجراءات إيرانية هدفها تحويل الانتباه من الداخل الى الخارج.

لكن الخارج الذي كان يتباهى "الحرس الثوري" الإيراني أنه في قبضته لم يعد كما تهيّأه أركان "الحرس الثوري". فالعراق دخل دوّامة الدمويّة وخطر الفوضى المدمِّرة. خرجت الأمور عن السيطرة لدرجة لن تتمكّن أية جهة سياسية، داخلية أو خارجية، من إيقاف النزيف. وهذا ليس مُطمئِناً لـ "الحرس الثوري" الإيراني الذي ظنّ أن "الحشد الشعبي" التابع له سيكون صمّام أمان السيطرة الإيرانية على العراق. خسارةٌ كبرى هذه لمشاريع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التوسّعية. وعليه، تنصّب القيادة في طهران على دراسة ما العمل في العراق وما العمل في لبنان لصيانة "الحشد الشعبي" و"حزب الله" من الثورتين العراقية واللبنانية.

"حزب الله" يشعر بالأمان الآن طالما ان هتافات المُتظاهرين لا تُطالب بنزع سلاح الحزب التي أمّنتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية له ليكون دولة داخل دولة بولاء قاطع لطهران. انه يراهن على ولاء رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وعلى التحالف مع "التيار الوطني الحر" من أجل تقاسم السلطة والسيطرة على لبنان وكثير من موارده. هذا المحور يقاوم بشدّة تأليف حكومة تكنوقراطية مستقلّة عن أوامره السياسية أو العقائدية أو الحزبية أو الطائفية. وهو ما زال يتخيّل أن هذه الثورة ستنطفئ قريباً ولذلك يُماطل لشراء الوقت. لكن هذا المحور ليس الوحيد الذي يُطلق عنان مخيلته الخيالية. "كلّن يعني كلّن" في هذا الهذيان.

الفارق هو أن في حال توصّل "حزب الله" الى الاستنتاج بأن صبره على الثورة سيؤدّي الى زوال امتيازاته، فإنه هو الذي يملك السلاح لفرض تحوّل نوعي في مسيرة الثورة ليحوّلها من ساحة احتجاج وإصلاح الى ساحة دماء. غيره يملك سلاح "البلطجة" الذي يخدم الهدف ذاته، لكن موضوع "حزب الله" أقرب الى معركة وجوديّة إذا ما نجحت الثورة في الانقلاب على مبدأ حكومة التسوية والصفقات السياسية وثبّتت حكومة مستقلة من أخصائيين محايدين. لذلك ان "حزب الله" في طليعة المقاومين لمطلب الثورة الأساسي، وهو، حكومة تكنوقراط تتولّى إدارة البلد وتنقله من الإفلاس المالي والأخلاقي والسياسي الى التعافي من الفساد ومن الانهيار.

إذا استمر قرار منع تشكيل حكومة تكنوقراطية، ان لبنان في طريقه الى شفير الهاوية. لذلك على الثورة أن تتمسك بأولوية فرض تشكيل حكومة من التكنوقراطيين، ثم تُطالب تدريجياً بتنفيذ مطالب أخرى فيما تستمر الملاحقات القضائية لمحاكمة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة. فبدون حكومة جدّية ونزيهة ومستقلّة، لن تصل أية أموال الى لبنان لإنقاذ اقتصاده من الانهيار الكارثي. لن يكون في الوسع المضي الى تحقيق مطلب قوانين انتخابية جديدة ولا المطالبة بإصلاحات جذريّة.

بكل بساطة، يجب على شباب الثورة التوقف عن الاندفاع الى تحقيق جميع المطالب دفعةً واحدة. يجب عليهم تبنّي استراتيجية التدريجية في تحقيق المطالب ضمن أولوية واضحة ومثابرة مدروسة.

يجب أيضاً الوعي والاستدراك عند النظر الى الواقع الاقتصادي والمعيشي والمالي للناس لأن الآتي صعب جداً سيمتحن الأعصاب. فالمستشفيات، مثلاً، على شفير الكارثة. المرحلة المقبلة ستصطدم بوجع الناس غير القادرين على تحمّل آثار انهيار الاقتصاد عليهم. سيلومون الطبقة السياسية بلا شك، لكنهم أيضاً سيلومون الحراك إذا فشل في وضع ضوابط لأهداف الثورة ولم يكن حسّاساً لوطأة الانهيار المالي على الناس.

فقط حكومة حقيقية تكنوقراطية هي وحدها من يمتلك أدوات الخلاص لأنها وحدها القادرة على أن تتحاور مع المؤسسات والحكومات الدولية من أجل خطة انقاذية، ووحدها ستكون قادرة على استعادة الثقة بالاقتصاد وتجنّب كارثة اجتماعية واقتصادية وفوضى مدمّرة. لذلك، يجب التمسّك بهذا المطلب الأساسي والتركيز عليه في مسيرة الثورة. وقد حان الوقت للحكومات والمؤسسات الدولية ان تبلّغ أركان الحكم في لبنان، من رئاسة الجمهورية الى رئاسة البرلمان الى رئاسة الحكومة المستقيلة، ان أنماط المماطلة والمساومة في تشكيل الحكومة يجب أن تتوقف فوراً، وإلاّ يُحمَّل جميع المعنيين مسؤولية تعمّد إغراق لبنان في الفوضى والدمار.

فليخاف هؤلاء الرجال المتقوقعين في غرف المساومات غير الواعين ان السفينة تغرق وهم على متنها، وليخافوا كثيراً. الهستيريا الجماعية ستنقضّ عليهم إذا لم يتوقفوا عن الهراء ويعترفوا حقاً أن هذه ثورة خلقت عقلية المحاسبة لمنع الفساد وحرّرت الناس من عقدة الانصياع. الثورة لن تكون مصدر الهستيريا الجماعية لكنها لن تتمكّن من حماية السياسيين منها لأنهم هم من يستدرجونها.

على هذه الثورة أن تعي ضرورة الحفاظ على تماسك الدولة ومؤسساتها بدءاً بمؤسسة الجيش الذي يجب الحرص على علاقة صحية ومتينة بينه وبين الشعب. فإذا حدث شغبٌ في هستيريا جماعية ان الجيش مسؤول عن التمييز بين رقيّ الثورة وبين أولئك الذين استدرجوا الشغب فعلياً بسبب استهتارهم بالناس. هذه مرحلة دقيقة وخطيرة إذا غاب عن شباب الثورة وقيادة الجيش التعمق حقاً في المشهد الذي سيقرر مصير لبنان.