إذا الحكم يوما أراد العناد فلا بد أن يستثير البلد... فكانت هذه الانتفاضة بمفهومها العلمي، أو الثورة بمفهومها الوجداني. الحق أن أكثر جهة تدعم الانتفاضة وتحركها وتديمها وتقويها يوما بعد يوم، هي السلطة السياسية اللبنانية بتماديها في سوء الأداء، بتجاهل مطالب الشعب، وباحتجاز الحلول. والمفارقة الجديدة أن السلطة التي نعرف وجوهها فقدت سلطتها، والانتفاضة التي نجهل وجوه قادتها اللبنانيين صارت سلطة تقريرية. وفي مثل هذه الحالات، غالبا ما تتغير السلطة القائمة وتنتصر سلطة الشعب. وبقدر ما تحصل عملية التغيير بسرعة تخفف السلطة الضرر الوطني وتتجنب الانتفاضة الاستنزاف القاتل. فالتركيبة اللبنانية المريضة لا تحتمل الاحتكام طويلا إلى الشارع، لئلا ننتقل من كيفية إسقاط السلطة إلى كيفية إنقاذ الانتفاضة.

الشعب يراهن على هذه الانتفاضة إيمانا بها أو خيبة من الآخرين أو انطلاقا من تموضعه السياسي. إنها ثورة "البشارة اللبنانية". يأمل الناس أن ما حبل به بدنس السياسيين سيولد بدون دنس من ثورة الشعب. ما كان سيجترحه بشير الجميل سنة 1982، لو ظل حيا، يطالب به الشعب اليوم. والمؤسسات الإدارية التي أنشأها فؤاد شهاب بعد أحداث 1958 يطالب بها الشعب اليوم، والازدهار الذي عم في عهد كميل شمعون يطالب به الشعب اليوم. والنزاهة التي تميز بها الياس سركيس يطالب بها الشعب اليوم. وإعلان بعبدا الذي أصدره ميشال سليمان سيصبح منطلق الحياد اللبناني.

منذ أسبوع، والدوائر الأميركية ومراكز دراساتها الاستراتيجية تتحدث عن رغبة واشنطن في أن تكون انتفاضة لبنان نموذجا للشرق الأوسط الكبير. لكن واشنطن تناست ثلاث حقائق:

الأولى أن واشنطن، وهي تشن حربا اقتصادية على إيران، أخذت لبنان في دربها، لا من خلال العقوبات على حزب الله فقط، بل بالقنص المنتظم على النظام المصرفي اللبناني، بغمز مؤسسات التصنيف لتخفض مستوى لبنان الائتماني، بتسريب أخبار سلبية إلى الإعلام الدولي حول لبنان، وبتوظيف جماعات يسارية متطرفة ضد مؤسسات لبنانية رسمية ومرجعيات، إلخ... فهل بإفقار لبنان وضرب نظامه الليبرالي وزعزعة أمنه تصبح انتفاضته نموذجا للشرق؟

الثانية أن دولة لبنان، التي ساهمت في إسقاطها الإدارات الأميركية في السبعينات، كانت هي نموذجا بنظامها وصيغتها وميثاقها. فحين لم يكن في الشرق ديمقراطية كنا ديمقراطيين. وحين لم يكن في الشرق استقلال كنا مستقلين. وحين لم يكن في الشرق تعايش كنا شركاء حياة. وحين لم يكن في الشرق ديبلوماسية كنا كلمة الشرق. وحين لم يكن في الشرق ثورات كنا الثوار. وحين لم يعد في الشرق مقاومة كنا مقاومين. فنحن كيان مكتمل ونابض، ولا يحتاج سوى إلى: إعادة هندسة داخلية، تثبيت سلطة الدولة، إصلاح مؤسساتها، وتجديد طاقمها السياسي.

والحقيقة الثالثة أن إدارتي أوباما وترامب تخلتا عن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي كان يقوم أساسا على: تغيير الأنظمة الاستبدادية، نشر الديمقراطية، إقامة دول فدرالية، وضمان حق تقرير المصير للأقليات. الشرق الأوسط الكبير اليوم يناقض مبررات الحروب الأميركية في الشرق، إذ نرى: تعويم الأنظمة الاستبدادية، انحسار الديمقراطية، فرز الشعوب طائفيا ومذهبيا، اجتياحا للحدود الدولية، وتنكرا لحقوق الأقليات.

في هذا السياق، ذهب وزير الخارجية، مايك بومبيو، حد إعلان "دعم أميركا انتفاضة الشعبين اللبناني والعراقي ضد النفوذ الإيراني". لكن سها عن باله أن الشبه موجود بين منظومتي الحكم في لبنان والعراق، فكلاهما ينتمي إلى المحور السوري/الإيراني، أكثر من وجوده بين انتفاضتي الشعبين اللبناني والعراقي: هناك شكل تحجيم النفوذ الإيراني هدف الانتفاضة، أما هنا فهو النتيجة لا السبب. هناك دخلت الانتفاضة في دائرة العنف الدموي فورا، أما هنا فهي - حتى الآن - في دائرة العنف الكلامي؛ والفضل في ذلك يعود إلى قيادة الجيش اللبناني التي احتضنت الشعب وحالت دون إراقة الدماء. يبقى الشبه الأساسي هو أن إيران ووكلاءها في لبنان والعراق أصبحوا في موقع الدفاع والحد من الخسائر بعدما كانوا، قبل الانتفاضتين، في موقع الهجوم والسيطرة ورفض أي تنازل. ومن يدري؟ قد يقبل حزب الله قريبا البحث جديا في الاستراتيجية الدفاعية، وقد أنهكته العقوبات، وأضر الانهيار الاقتصادي بيئته، وتراجع التمويل الإيراني عنه نسبيا.

لقد بدأ شعب لبنان يحقق ثمار انتفاضته تدريجا. وهو اليوم أمام خيارين: هضم إنجازاته الوطنية أو المغامرة بسلمية انتفاضته. وفي الحالتين سيف الانتفاضة يجب أن يبقى مصلتا حتى بلوغ التغيير المستوى الدستوري. لا يجوز أن تنتهي هذه الانتفاضة/الثورة بتغيير حكومي فقط. تغيير الحكومة لا يستحق ثورة؛ يكفي أن تحجب الكتل النيابية الثقة عن الحكومة لتسقط. ما يستحق الثورة هو تغيير المنظومة الحاكمة وإحياء الدولة الوطنية. ما يستحق الثورة هو استعادة السيادة والاستقلال والقرار الحر، هو حصر الشرعية السياسية بالمؤسسات الدستورية والشرعية العسكرية بالجيش اللبناني. ما يستحق الثورة هو إطلاق الحركة الاقتصادية والتجارية والنمو والازدهار، هو تأمين فرص العمل والتعليم المجاني والضمانات الاجتماعية والصحية. ما يستحق الثورة هو الانتقال إلى اللامركزية الموسعة المتوافقة مع التعددية الحضارية غير الطائفية. ما يستحق الثورة هو إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم، إذ فيما نحن غائصون في يوميات الانتفاضة، دعا الاتحاد الأوروبي "إلى ضرورة تأمين قدرة النازحين السوريين على الاندماج والتوظيف على المدى الطويل بطريقة متماسكة مع المجتمعات المضيفة. ما هذه الدول التي تدعي دعم انتفاضة شعب لبنان وتضرب وطنه وكيانه؟

حان الوقت لتتلو ثورة "البشارة اللبنانية" فعل إيمانها بقضايا الوطن اللبناني بعدما تلت فعل إيمانها بقضايا الإنسان. لا يجوز للمطالب الاجتماعية أن تهمش القضايا الوطنية، إذ ما قيمة كل التغيير والإصلاح في وطن يسرق منا ويقدم ذبيحة للآخرين؟

سجعان قزي