لا أدري كيف كلما استمعت لأحد خطباء الجمع والأعياد على امتداد خريطة الوطن العربي

أو أحد الوعاظ سواء بالمساجد أو عبر القنوات التلفزية أو الإذاعات، إلا و استحضرت

قصة "الكاهن والشيطان" للكاتب العالمي دوستويفسكي التي كتبها على جدار زنزانته عام

1849، و خاصة أولئك الذين لا يتقنون غير التركيز حد القرف على وصف الحياة بعد

الممات، ابتداء من حفرة القبر إلى عذاب جهنم الكالح ونارها الملتهبة وقودها الناس

و الحجارة، كلما نضجت الجلود يبدلون جلودا أخرى للإمعان في تعذيبهم، وكذا طعام أهلها

و شرابهم كالحميم يغلي في البطون كغلي الحميم، لا يقيهم حراً ولا يروي لهم ظمأ، و لباسهم

الذي يقُطّع ثيابه من النار، و السلاسل والأغلال، و زيادة في التحقير و الإذلال، فإنهم

يسجون في حفر ضيقة تسلط عليهم الحيات والعقارب والحشرات وغير هذا كثير مما يتفننون

فيه بما أوتوا من فصاحة و بيان، لو استثمروها فيما يفيد لكان حال الأمة الإسلامية غير ما

هو عليه اليوم من تخلف وهوان. لا يكفيهم ما ورد في القرآن الكريم، بل يزيدون عليه مما

يستقونه من أحاديث ضعيفة، بدعوى أنه في مجال الوعظ لا بأس من الاستشهاد بها على

ضعفها. هذا فضلا عن تخصيص بعضهم حلقات متلفزة بالعشرات للحديث بالتفصيل عن

أشراط الساعة الصغرى والكبرى، حتى لَيَظن المتتبع أن القيامة ستقوم اللحظة، و من تم فلا

داعي للاهتمام بالدنيا بما أنها فانية لا تساوي عند الله جناح بعوضة. و الغريب أن هؤلاء،

ففي الوقت الذي يُزَهِّدون الناس في الدنيا، تجد معظمهم يرفلون في نعيمها بالسيارات الفارهة

و الدور واسعة و تعدد الزوجات، دون الحديث عن الخدم والحشم و الرواتب السمينة. أجل

فكلما سمعت هذا أو حضرته، أتمثل قصة دوستويفسكي الجميلة سالفة الذكر، يستهلها

بترحيب الشيطان بالكاهن قائلا:

"مرحبا أيها الأب الصغير السمين ! ما الذي جعلك تكذب هكذا على هؤلاء الناس المساكين

المضللين؟ أي عذابات من الجحيم صورت لهم؟ ألا تعلم أنهم يعانون أصلاً عذابات الجحيم

في حياتهم على الأرض؟

فشده من ياقته، و طار به إلى مكان سبك الحديد في مصنع. وهناك رأى الكاهنُ العمالَ

يركضون على عجل ذهاباً وإياباً، يكدحون في الحرارة الحارقة. وسرعان ما فاق الهواء

الثقيل مع الحرارة احتمال الكاهن، فأخذ يتوسل إليه والدموع في عينيه أن يدَعَه ليترك هذا

الجحيم. لكن الشيطان كان له رأي آخر إذ سحبه إلى ما هو أشد، إلى مزرعة حيث العمال

يدقون الحبوب وسط غبار كثيف وحرارة لا تحتمل، وسياط المراقبين تلفح ظهر كل من يقع

على الأرض من شدة الإرهاق أو الجوع، بلا رحمة أو شفقة. ومن هنا أخذه إلى ما هو أفظع،

إلى أكواخ هؤلاء العمال مع أسرهم والتي ليست أحسن حالا من جحور قذرة باردة كريهة

الرائحة. لم يستطع الكاهن التقي أن يتحمل، فرفع أكفه يتضرع إلى الشيطان أن يخرجه من

هنا وهو يردد:

"دعني أخرج من هنا، نعم، نعم! هذا هو الجحيم على الأرض ". فقال له الشيطان:

"حسناً إذاً، ها أنت ترى، ولا تزال تعدهم بجحيم آخر. تشق عليهم، تعذبهم حتى الموت

معنوياً، في الوقت الذي هم فيه ميتون أصلاً في كل شيء عدا الموت الجسدي !

لم يكتف الشيطان بهذا بل أخذه إلى إحدى زنزانات سجن بهوائها الفاسد، حيث هيئات بشرية

كثيرة مسلوبة كل صحة و قوة، ملقاة على أرضها، و مغطاة بحشرات و هوام تتغذى على

أجسامهم الضعيفة، العارية، الهزيلة.

فقال الشيطان للكاهن:

"اخلع عنك ملابسك الحريرية، وضع على كاحليك سلاسل ثقيلة كهذه التي يلبسها هؤلاء

البائسون، استلق على الأرض الباردة القذرة، وعندها حدثهم عن الجحيم الذي لا زال

ينتظرهم". فأجاب الكاهن:

" لا، لا ! لا أستطيع التفكير في أي شيء أكثر ترويعاً من هذا. أتوسل إليك، دعني أخرج من

هنا. نعم، هذه هي جهنم. لا يمكن أن يكون هناك جهنم أسوأ منها. فقال له الشيطان:

ألم تكن تعلم بها؟ ألم تكن تعلم عن هؤلاء الرجال والنساء الذين ترعبهم بصورة جحيم

أخرويّ ,. ألم تكن تعلم أنهم في الجحيم الآن، قبل موتهم؟"

ما أحوجنا إلى خطاب ديني متزن و متوازن، بقدر ما يذكر الناس بمصيرهم الأخروي

المحتوم، يؤكد على حقوقهم الدنيوية تكفلها لهم الشرائع السماوية و كذا القوانين الدولية

العادلة.

 بوسلهام عميمر