بالقدر ما نثمن انفتاح "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي" على الفعاليات السياسية والاجتماعية وهيئات المجتمع المدني في "الواقع" كما في "العالم الافتراضي"، وبالقدر ما نؤكد أن هذه "المقاربة التشاركية" المتعددة الزوايا، من شأنها بلورة وتنزيل "نموذج تنموي" يعكس نبض المجتمع ومختلف قواه الحية، نرى أن "واقع الحال" يقتضي النزول إلى الميدان، ليس فقط للاستماع إلى مطالب الساكنة وتطلعاتها وانتظاراتها، ولكن أيضا، لمعاينة "الحقيقة" في مهدها، لا كما تروى أو تحكى أو ينظر لها، وهي حقيقة تتجاوز لغة الأرقام والإحصائيات، وترتقي فوق الرؤى والنظريات، وتعلو فوق اللقاءات الرسمية الغارقة في البروتوكولات والمجاملات..

لغة "الواقع" تفرض تجاوز المكاتب المكيفة ولقاءات المجاملات، والقيام بزيارات ميدانية للمدن البئيسة والأرياف المعزولة بين الجبال النائية، حيث لا يعلو صوت على صوت "البؤس" و"الهشاشة" و"الإقصاء" في أقسى درجاته، وزيارات من هذا القبيل، تسمح ليس فقط برصد نبض الساكنة وتوجيه البوصلة نحو ما تعانيه من معاناة وما تحمله من مطالب مشروعة وانتظارات، ولكن أيضا، من أجل معاينة "المجالات"، والتوقف عن قرب، عند ما تعانيه من اختلالات بنيوية ومن أزمات سوسيواقتصادية، وما يعتريها من خصاص مهول في البنيات التحتية (طرق، قناطر ..) والتجهيزات والمرافق العمومية (ماء، كهرباء، صحة، تعليم، نقل، دور الشباب والرياضة والثقافة، ملاعب القرب...إلخ)، خاصة في المغرب الذي يحمل توصيفات "المنسي"، "العميق" و"غير النافع"..

في هذا الصدد، وبالرجوع إلى خطاب العرش الأخير، فقد حدد جلالة الملك محمد السادس مواصفات "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي" ومنها "القدرة على فهم نبض المجتمع"، وهو "نبض" لا يمكن اختزاله فقط في الانفتاح على الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وعبر نهج استراتيجية ميدانية، تلامس "الواقع" بكل ما يعتريه من اختلالات وتناقضات، من منطلق أن أية رؤية تنموية، لابد أن تتأسس على تشخيص أمثل وأدق للواقع، حتى يتسنى تقديم تدابير وخطط المعالجة، حسب حجم الخصاص وحجم الأزمة وحجم المطالب والانتظارات، وفي هذا المستوى، لا مناص من إيجاد توليفة منهجية بين "معطيات الواقع" وبين ما تتيحه التحاليل والنظريات من "رؤى واختيارات"، في إطار "رؤية ثنائية الأبعاد" تجمع بين "الواقع" و"النظرية"..

وحتى، لا نتيه بين الأفكار الغارقة في النظري، هي فرصة، لنعكس حقيقة الواقع المر، الذي تعيشه العديد من المجالات خاصة القروية، عبر رصد معالم "حالة" حاملة لكل مشاعر الحسرة والأسف والألم المستدام، عايناها عن قرب قبل أيام بإحدى المقاهي المتواجدة على مقربة من "محكمة عين السبع" ونحن نترقب انطلاقة إحدى مباريات "الرجاء البيضاوي"، حكاية لطفل يبلغ من العمر حوالي 15 سنة، أثار انتباهنا بمجرد ولوجه إلى المقهى متحوزا "ربيعة" خشبية متهالكة، وعيناه البريئتين تتراقصان يمينا وشمالا، بحثا عن "زبون" يرغب في "مسح حدائه" سعيا وراء "دريهمات معدودات"، من كثرة الشفقة عليه والتأسف لحاله خصوصا أمام صغره وملابسه التي لا يمكن أن تقي قساوة البرد حتى داخل البيوتات، فقد نادينا عليه ومنحناه فرصة لمسح الحداء شأننا في ذلك شأن الصديق الذي يرافقنا، وتحيناها فرصه للدردشة معه، فأدلى لنا بمعلومات عابرة، لكنها كانت كافية لنسج خيوط الحكاية..

اسمه "ابراهيم" من مواليد سنة 2004 بإحدى دواوير الشماعية بمنقطة احمر، درس حتى السنة الثانية إعدادي وغادر الدراسة قبل سنة رغم نجاحه وانتقاله إلى مستوى السنة الثالثة إعدادي، وقضى حوالي سنة كراعي غنم، وبعدها، أرسلته أسرته - في هذه السن المبكرة- إلى الدار البيضاء التي حل بها أقل من شهرين، يكتري غرفة بالحي المحمدي إلى جانب أربعة شباب ينحدرون من المنطقة التي يقطن بها يكبرونه سنا، يكترون جماعة غرفة بسومة كرائية قدرها حوالي "800"درهم بما فيها مصاريف الماء والكهرباء، ، ويمتهن مهنة "ماسح أحدية"، التي تدر عليه مدخولا شهريا يتراوح ما بين "1200" درهم و"1500"درهم شهريا، يسدد منها مبلغ "3120" ريــال حسب قوله كواجب الكراء، ويصرف ما بين "15" درهما و"20" درهما في اليوم من أجل الأكل، لكن الغريب، هو أنه ملزم، بإرسال مبلغ"200" درهم لوالديه بنواحي الشماعية كل أربعاء..

وبعد أن أنهى مهمته، غادرنا "ابراهيم" – في حدود الساعة 19و50دقيقة- بعد أن سلمناه عمولته وبسخاء، وعيناه البريئتين تتراقصان بحثا عن زبون جديد، تاركا في أنفسنا مشاعر الحسرة والإحباط والألم، إلى درجة أن حكايته، تكاد تختزل حجم "البؤس" و"حجم" الإهمال الذي يعشش كخيوط العناكب في عدد من المجالات، فمن يبحث عن "الهدر المدرسي" ويتيه بين المفاهيم والأرقام، نقدم له حالة الطفل "ابراهيم" الذي غادر فصول الدراسة بسبب الفقر والهشاشة والحرمان والتهميش، وقساوة الحياة، أرغمته على مغادرة "حضن الأسرة"، ليقوده القدر إلى أحضان مدينة "غول" اسمها "الدار لبيضاء"، ويكتري غرفة رفقة راشدين، بشكل يجعل جسده الصغير مهددا فوق العادة، سواء من قبل من يتقاسم معهم كراء الغرفة، أو عبر بعض المتشردين أو مدمني الكحول والسليسيون، وحتى إذا سلم من العابثين والمنحرفين، فهو مرشح للانحراف والتيهان في مدينة عملاقة، خصوصا وأنه يتواجد في سن حرجة، تقتضي أن يكون في فصول الدراسة، قريبا من أسرته، وهنا بالقدر ما نحمل المسؤولية للأسرة، لأنها خاطرت بطفل صغير وحكمت عليه بالمنفى وبالاشتغال وإرسال النقود، بالقدر ما نؤكد أن المتهم الحقيقي هو "الفقر" و"البؤس" و"الهشاشة" و"الحرمان"..

حكاية ابن الشماعية "ابراهيم"، لم نجد خيارا من تقاسمها مع القراء، ولم نجد بديلا، من ربطها مع مهمة "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي" وما تقوم به من لقاءات، لنؤكد أن "اللجنة"، لا بد أن تتحرك نحو الميدان، فهناك حالات كثيرة من التلاميذ أمثال "ابراهيم" ضحايا "الهدر المدرسي"، الذين غادروا الحجرات الدراسية بشكل قسري بسبب "البؤس" بكل أبعاده وتجلياته، وهو واقع مؤلم، يجعل الآلاف من المتعلمين، يوجدون خارج نسق التربية والتكوين، وهذا يجعلنا نقف أمام مفارقة غريبة، إذ، كيف نتطلع إلى إرساء منظومة القيم عبر التعليم، ونحن في نفس الآن، نكرس واقعا سوسيواقتصاديا "بئيسا"، يدفع إلى مغادرة "المدارس" قسرا..

حكاية "ابراهيم" تفرض على "اللجنة" توجيه البوصلة نحو المجالات الهشة خاصة بالعالم القروي وفي هوامش الــمدن، لرصد الأسباب المتحكمة في "الهدر المدرسي" الذي يحكم بالفشل الذريع على المشاريع الإصلاحية التي تستهدف النهوض بالتعليم العمومي، وهو ظاهرة على درجة كبيرة من الخطورة، لا يمكن التحكم فيها أو محاصرتها، إلا بالتنمية الشاملة والقضاء الذي لارجعة فيه على "الفقر" لأنه أصل الداء، وفي جميع الحالات، فالهدر المدرسي، ما هو إلا مرآة عاكسة للأزمات التي تعاني منها الكثير من المجالات الحضرية والريفية، وقبل الختم، نؤكد، أن "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي"، لا بد أن تستحضر حالة "ماسح الأحدية" ابن الشماعية "ابراهيم" الذي ساقة قدره وهو طفل صغير إلى مدينة عملاقة كالدار البيضاء، تاركا حجرة دراسية غادرها قسرا ذات يوم، حاملا بين يديه الصغيرتين "ربيعة خشبية"، بدل حمل الكراسة والقلم، قدره "قدران": أن يشتغل كماسح أحدية ليسدد سومة الكراء(حوالي160درهما) شهريا، ومصاريف الأكل (من 15 إلى 20 درهما) يوميا، وأن يبعث في نفس الآن، لوالديه بمبلغ "200 درهم" كل أسبوع (كل أربعاء).. إنها ضريبة "الهدر المدرسي" وضريبة "البؤس" و"ضريبة الطفولة المغتصبة"..

من سيسأل عن" إبراهيم" فهو يتردد على المقاهي المتواجدة على مشارف محكمة عين السبع بحثا عن دراهم تقي حر الضياع والشتات في واقع قاس لا يرحم، فأين هو الحق في التعلم؟ وأين هي العدالة والمساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص؟، عسى أن ينقد "ابراهيم" وينقد أقرانه من الأطفال الذين نزلوا من قطار التعلم قسرا تحت حر الفقر القاتل، وإذا لم تصحح الوضعية، فما الجدوى من "رؤية الإصلاح"، وما الغاية من "نموذج تنموي" إذا لم يتم شن حملة شرسة مستدامة على مشاهد الفقر والبؤس والإقصاء، وقبل هذا وذاك، على من يكرس بعبثه "الفقر" ويعمق بتهوره "الجراح" في وطن ضاق ذرعا من ألم الجراح...

 

عزيز لعويسي