تعتبر الميزانية العامة في النظام المالي المغربي محرك الحياة الاقتصادية، فهي الترجمة المالية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية، والمحور الذي تنتظم في إطاره وتسير وفقا لمقتضياته مختلف أنشطة المؤسسات والمرافق الحكومية. فممارسة الدولة لوظائفها تتوقف على القيام بتقديرات لحجم النفقات اللازمة لمختلف أنشطتها وبالمقابل تقدير الإيرادات الضرورية لتغطية هذه النفقات.

وتبعا لذلك، فإنه يتعين القيام بمقارنة بين تقدير النفقات وتقدير الإيرادات، وبالفعل فإن هذه التقديرات والقيام بمقارنتها يتم سنويا في إطار ما يسمى بميزانية الدولة. فهذه الأخيرة، تعد وسيلة سنوية تبتغي الدولة من خلالها تحقيق سياستها الاقتصادية، التي تسطر بها نظرتها الاستراتيجية على المستوى البعيد. وهي النظرة التي تهم كافة القطاعات: الصحة والتعليم والشغل والعدل والتجهيز وغيرها من باقي القطاعات الأخرى.

وإذا كان الأمر كذلك، فالجدير بالملاحظة أن الاقتصاد الوطني كغيره من اقتصاديات مختلف دول المعمور، يواجه أزمة غير مألوفة وصدمة غير مسبوقة، وذلك بسبب تداعيات انتشار فيروس كورونا المستجدcovid 19) ). ومن الصعب التنبؤ بحجم الخسائر الاقتصادية التي ستتكبدها الدولة. فكلما طالت مدة هذا الوباء إلا وزاد الوضع تعقيدا. وما يدلل على أن الاقتصاد الوطني يعيش أزمة وكسادا هو ما تم نشره بتاريخ 22 أبريل 2020 من لدن المندوبية السامية للتخطيط حيث جاء في بحث ظرفي أنجزته هذه المؤسسة الوطنية، أرقاما مخيفة وصادمة حول تأثير جائحة كوفيد 19 على نشاط المقاولة المغربية التي تعتبر المحرك الأساس للدورة الاقتصادية.

فبحسب هذه الدراسة فقد صرحت في بداية شهر أبريل ما يقارب 142.000 مقاولة، أي ما يعادل 57% من مجموع المقاولات أنها أوقفت نشاطها بشكل مؤقت أو دائم، حيث أن أزيد من 135.000 مقاولة اضطرت إلى تعليق أنشطتها مؤقتا، بينما أقفلت 6300 مقاولة بصفة نهائية. كما أفادت المندوبية في نفس الدراسة أن عدد العمال والمأجورين الذين توقفوا عن العمل في جميع قطاعات الأنشطة الاقتصادية يتجاوز 726.000، وبالمناسبة هذا الرقم قد ارتفع في بداية الأسبوع الأول من شهر ماي إلى أزيد من 900.000.

وفي نفس السياق، نشير إلى أنه بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد على الاقتصاد الوطني، خفّضت وكالة "فيتش" الدولية للتصنيف الائتماني من توقعاتها بخصوص المغرب من "مستقرة" إلى "سلبية". حيث جاء في تقرير لها صدر نهاية شهر أبريل، إن: "هذه التوقعات السلبية تعكس الضربة القوية التي لحقت الاقتصاد المغربي جراء صدمة وباء فيروس كورونا، التي ستتسبب في أكبر انكماش في الناتج المحلي الإجمالي منذ 25 سنة".

وبحسب خبراء وكالة التصنيف الائتماني يُتوقع أن تتسبب أزمة وباء فيروس كورونا في تسجيل انكماش اقتصادي في المغرب قدره 4.5% السنة الجارية، مع زيادة ملحوظة في العجز في الميزانية ونسب ديون المملكة. وفي نفس السياق، ذكرت "فيتش" أن المغرب سيواجه هذا الانكماش الاقتصادي بعد 22 عاماً من النمو المستمر؛ لكن يتوقع أن يحقق الاقتصاد الوطني نمواً قدره 6 في المائة سنة 2021. كما جاء في تقرير هذه المؤسسة، أن أزمة "كوفيد-19" تسببت في انخفاض الصادرات والسياحة والتحويلات والاستثمار الأجنبي المباشر، وهو ما سيُضاعف عجز الحساب الجاري إلى 8.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020.

في المقابل، تعتقد "فيتش" أن انخفاض أسعار منتجات الطاقة، ولاسيما البترول، ووقف بعض الاستثمارات التي تعتمد على الاستيراد وزيادة الدعم الخارجي، سيُساعد على الحد من تدهور رصيد الحساب الجاري إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2021، شرط انتعاش السياحة وزيادة القدرة التصديرية للصناعة.

وإذا كان الأمر كذلك، ونتيجة توقف محركات الاقتصاد الوطني جراء تفشي فيروس "كورونا" أصبح القانون المالي لسنة 2020 رقم 19 – 70 الذي صادق عليه البرلمان في الدورة الخريفية ودخل حيز النفاذ في فاتح يناير من السنة الجارية، أصبح متجاوزا في جزء كبير من تقديراته وفرضياته ومؤشراته التي بني عليها. فهذا القانون، بعبارة أوضح تجاوزه الزمن وانقلبت بياناته التقديرية رأسا على عقب نتيجة تأثير جائحة كورونا.

فكما هو معلوم، الميزانية العامة التي تعتبر جزء من القانون المالي السنوي، هي بيان تقديري مفصل للإرادات والنفقات التي يأذن البرلمان للحكومة بصرفها وتحصيلها برسم سنة مالية مقبلة تنفيذا للسياسة العامة للدولة، يتضح من خلال هذا التعريف أن الميزانية العامة، تقوم على افتراض وتقدير وتوقع لما يمكن أن تنفقه الحكومة ولما يمكن أن تجنيه من موارد خلال سنة قادمة. والغالب أن تقوم الحكومة بتقدير النفقات التي تجريها على أساس الاحتياجات والأهداف المرغوبة والموارد المتاحة، كما أنها تقوم بتقدير الإيرادات التي تحصلها على أساس من التوقعات التي تكون من وجهة نظر الحكومة أقرب ما تكون إلى الواقع.

وعملية وضع تقديرات للمبالغ التي ترتقب الدولة صرفها وتلك التي تتوقع الحصول عليها في فترة مقبلة، ليس عملية عشوائية بقدر ما هي عملية احتمالية ترتكز على بعض الأساليب والتقنيات الخاصة بتقدير النفقات والإيرادات، وفي ضوء دراسات مستفيضة ودقيقة، مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات الاقتصادية والمالية المستقبلية وكذا مختلف المؤشرات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية وإمكانية تطورها سواء على المستوى الدولي أو المستوى الإقليمي.

فلئن كانت هذه هي الطريقة والمنهجية التي تتبعها الحكومة أثناء وضعها لركائز وتقديرات الميزانية، وبالرجوع إلى أهم الفرضيات والمؤشرات التي تنبني عليها ميزانية 2020 والمتجسدة في الأرقام الافتراضية التالية: معدل النمو 3,7% ، عجز الميزانية 3,5%، ونسبة التضخم أقل من 2%، ومتوسط سعر الغاز والبوطان 350 دولار للطن، وتم إحداث 23,312 منصبا ماليا في القطاع العام (الوزارات والمؤسسات العمومية).

كما تم تحديد موارد هذه الميزانية في المداخيل الضريبية بما مجموعه: 233,37 مليار درهم، والاقتراضات في حدود 97,20 مليار درهم. أما بالنسبة للأوجه الذي ستنفق فيها هذه النفقات فقد تم حصرها أولا في: نفقات التسيير ب 59, 221 مليار درهم ونفقات الاستثمار 78,21 مليار درهم، واستهلاكات الدين العمومي 67,51 مليار درهم ونفقات الفوائد الدين العمومي 29,01 مليار درهم.

من خلال هذه الفرضيات والتقديرات التي بني عليها القانون المالي لهذه السنة، نستطيع أن نقول أنه لم يعد عمليا ومنطقيا وواقعيا الحديث عن مداخيل ضريبية بالقدر المتوقع في القانون قبل وقوع هذه الأزمة. فقانون المالية توقع مقدار الرسوم الجمركية في حدود 10.35 مليار درهم ومقدار الضريبة على الشركات في حدود 53.53 مليار درهم. فكيف إذن يمكن لهذا الرقم أن يتحقق على أرض الواقع في ظل الوضعية التي أصبحت تعيشها المقاولة المغربية وتوقف آلة الانتاج؟

فكما أسلفنا القول، فالمقاولات الصغرى والمتوسطة أصبحت تواجه عدة إكراهات ترتب عنها عدم القدرة على الوفاء بالتزاماتها الضريبية وأداء الواجبات المستحقة المنصوص عليها في المدونة العامة للضرائب.

- كما أن معدل النمو المقدر ب3.7 %، سيبقى بعيدا كل البعد من ملامسته للواقع بسبب الظروف التي تمر منها بلادنا والمرتبطة بتداعيات كورونا، حيث توقعت المندوبية السامية للتخطيط تراجع نمو الاقتصاد المغربي لأدنى مستوى منذ 20 عاما إلى 2,2 %. كما أن البنك المركزي في تحليله للوضعية الاقتصادية خلص إلى أن النمو يمكن أن يستقر عند 2,3% بسبب الظروف الخاصة بفيروس كورنا Covid 19 والتي كان من نتائجها:

تراجع الاستثمارات العامة، وتضرر قطاع السياحة وانخفاض عائداتها ( قد تشهد تراجعا قد تقل حتى 39% من أعداد الوافدين على المغرب بحسب مذكرة CFG.Bank )، وتراجع الصادرات (قطاع السيارات، والنسيج والجلد والألبسة). أيضا تضرر قطاع الصناعات المعدنية و الميكانيكية والصناعة الغذائية والصناعات الكيميائية وشبه الكيميائية وغيرها، وتباطؤ تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، تضرر منتجات الصيد البحري.

هذه المؤشرات السلبية جميعها تزامنت خلال هذه السنة مع انخفاض الإنتاج الزراعي بسبب الجفاف الشيء الذي سيعقد الوضعية الاقتصادية أكثر فأكثر مما سينعكس سلبا على مقدرات الميزانية الوطنية.

- ومن المؤكد كذلك أن نسبة العجز المحددة في 3.5%في القانون المالي لهذه السنة ستعرف ارتفاعا ملحوظا في ظل السياق العام الذي تمر منه بلادنا والمرتبط أساسا بجائحة كورونا، فنسبة العجز ستتأثر لا محالة من ذلك، نتيجة:

أولا: ضعف الموارد وارتفاع حجم الإنفاق العام بسبب تراجع الدخل الضريبي المفروض على الشركات والمقاولات، وهنا أريد أن أفتح قوسا لأقول، أنه منذ عقود خلت، بقيت النفقات العمومية تتزايد في الوقت الذي لم تستطع معه الموارد العادية للميزانية العامة للدولة وخاصة الموارد الجبائية مسايرة هذا التزايد، لأن الهم الأساسي للسياسات العمومية، منذ استقلال المغرب إلى الآن، كان هو خلق نفقات جديدة دون الاهتمام بتقييم هذه النفقات أو قياس مردوديتها. هذا الأمر كان هو السبب المباشر في عدم تحقيق تعادل بين حجم الايرادات وحجم النفقات في الميزانية بصفة دورية ومنتظمة. هذا المشكل سيتفاقم في ظروف كورونا بسبب تزايد النفقات التي تتطلبها عملية تدبير هذه الجائحة على جميع المستويات مثل: استيراد المواد الصحية والأدوية الخاصة بهذا الوباء، وكذلك أجهزة ومواد التعقيم إلى غير ذلك من الأمور.

ثانيا: كما أن وضعية تبعية الاقتصاد المغربي للخارج، سواء تعلق الأمر بتحويلات العملة الصعبة، أو المديونية، أو الارتهان للمبادلات التجارية، وغيرها ستجعل نسبة العجز المحددة في القانون المالي لسنة 2020 أمام امتحان صعب خلال هذه السنة. فبالنسبة للتجارة الخارجية على سبيل المثال، وحسب مذكرة ( (CFG.Bank فإنه يتوقع انخفاضا بنسبة 20% في حجم المبادلات التجارية الخاصة بالسلع والبضائع وهو ما يعادل 2.6 مليونا في كل شهر ابتداء من شهر مارس نتيجة تراجع الطلب الخارجي على المنتوجات المخصصة للتصدير كالسيارات والنسيج و منتوجات الصيد البحري.

- على مستوى آخر، لم يعد منطقيا الحديث عن تخصيص ميزانية استثمار بمقدار 189 مليار درهم في ظل توقف الدورة الاقتصادية .إن مواجهة جائحة كورونا تفرض وقف النفقات غير الضرورية، وبالفعل قررت حكومة سعد الدين العثماني التراجع في آخر لحظة عن وقف جميع هذا النوع من النفقات التي قررتها في مشروع قانون المالية لسنة 2020.

- أما بالنسبة للاقتراض الخارجي أصبح من الضروري تجاوز 31 مليار درهم الذي هو سقف ما هو محدد في المادة 43 من قانون مالية 2020 . في هذا الاطار تم إعداد مشروع المرسوم بقانون يرخص لوزير الاقتصاد تجاوز هذا المبلغ لسد النقص الحاصل على مستوى الايرادات بسبب تراجع المداخيل الوطنية الذاتية وارتفاع حجم الانفاق العمومي وذلك أمام: تراجع الطلب الخارجي الموجه إلى المغرب وانكماش تدفقات الاستمارات الخارجية وعائدات المغاربة المقيمين بالخارج، فضلا عن توقف عائدات السياحة.

وارتباطا بهذا الموضوع، أورد تقرير "فيتش" المشار إليه سلفا، أن المغرب سيلجأ إلى الاقتراض خلال السنة الجارية أكثر، إذ بدأ بسحب 3 مليارات دولار من خط الوقاية والسيولة لدى صندوق النقد الدولي بداية الشهر الجاري، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا الخط منذ توقيعه سنة 2012. وفي نفس السياق، قالت "فيتش" إنها تتوقع أن تسعى الحكومة المغربية إلى الحصول على خط وقاية جديد مع صندوق النقد الدولي في الأشهر المقبلة، وتمديد سنداتها إلى خمس سنوات بمليار دولار، والمقررة أن تنتهي في أكتوبر المقبل.

وفي المجال الذي نحن بصدده، نشير إلى أن مجلس النواب صادق يوم الخميس 30 أبريل 2020 على مشروع قانون (رقم 26.20 يقضي بالمصادقة على المرسوم بقانون رقم 2.20.320 قدمه وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، يقضي بتجاوز سقف الاقتراض الخارجي، ما يسمح بالترخيص للحكومة بتجاوز سقف التمويلات الخارجية، المحدد بموجب المادة 43 من قانون المالية لسنة 2020، بأغلبية أعضائه.

وسيمكن المشروع، حسب وزير المالية، المغرب من توفير حاجياته من العملة الصعبة، خاصة عبر اللجوء إلى الأسواق الدولية للاقتراض في ظل تأثر مجموعة من القطاعات، كالسياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة والقطاعات المصدرة، بالإضافة إلى تحويلات المغاربة القاطنين بالخارج.

وتبعا للقانون المذكور فقد قررت الحكومة الترخيص لوزير الاقتصاد وإصلاح الإدارة بتجاوز سقف المبلغ المتعلق بإصدار اقتراضات وكل أداء مالي آخر من الخارج، المحدد بموجب المادة 43 من قانون المالية في 31 مليار درهم.

وبررت الحكومة هذا الإجراء بالآثار السلبية التي خلقتها جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي وعلى جل القطاعات الحيوية للاقتصاد الوطني، وخصوصا السياحة والاستثمارات الأجنبية والقطاعات المصدرة وتحويلات مغاربة العالم، موردة أنه يتوقع أن تعرف وضعية الموجودات من العملة الصعبة تراجعا ملموسا.

ومما لا مراء فيه أن هذا الاقتراض لن يكون بدون عواقب، ويهدد سيادة المغرب وحتى استقلاله". فالمغرب كما صرّح بذلك أحد البرلمانيين له:" ما يكفي من العملة الصعبة، بقيمة 240 مليار درهم "لجلب هذه المواد الأساسية من الخارج"، وله صادرات مثل الفوسفاط والفلاحة، تغطي الحاجيات السنوية للمملكة من البترول والأدوية والقمح والشاي، خصوصا هذه السنة التي انخفض فيها سعر البترول إلى مستويات قياسية".

- وبالرجوع أيضا إلى نسبة التضخم المحددة في 2 %بحسب قانون المالية، فمن الثابت واليقين والمؤكد أن هذا التقدير سيصبح متجاوزا بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وغير الغذائية نظرا لإقبال المغاربة على شرائها في الظروف الحالية تحسبا لأي طارئ، علاوة على ارتفاع حجم الإنفاق الأسر على التعليم والمدارس الخاصة وتكاليف الصحة. وبناء عليه، من المتوقع أن تتضاعف نسبة التضخم لما كانت عليه قبل سنة 2019 بسبب الواقع المتشائم لفئة عريضة من الأسر المغربية بسبب ارتفاع الأسعار وتراجع قدرتها الشرائية. وكان تقرير صادر عن البنك الدولي مؤخرا، قد أشار إلى أن 15% فقط من الأسر المغربية تنتمي للطبقة الوسطى، إذا ما أخذ بالاعتبار معيار دخل شهري في حدود ألف دولار. وبحسب نفس التقرير كذلك، فإن ربع المغاربة يعانون من الفقر أو معرضون لخطر الفقر، وتحتل المملكة المغربية المركز 123 على مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية.

وفي ظل هذه الجائحة، لم تكشف الحكومة بعد، عن تدابير في موازنة 2020، تساعد على دعم القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة المتطلعة إلى تحسين إيراداتها في سياق متسم بتحملها ضغطا جبائيا كبيرا أو تكاليف خدمات كانت تؤمنها الدولة في السابق.

- أما بالنسبة للمناصب المالية المخصصة للوزارات والمؤسسات العمومية والمحددة في قانون المالية ب23,112، فإن الحكومة لا محالة ستعمل خلال هذه السنة الاستثنائية على اعتماد الإدارة على الانتشار لتغطية العجز.

من خلال هذه المعطيات والمؤشرات، نستطيع أن نقول أن جل البيانات التقديرية والمرتكزات والفرضيات التي انبنى عليها القانون المالي لسنة 2020، قد تبعثرت واندثرت وانتهت. فكورونا بعثر أوراق القانون المالي ويجب إعداد ميزانية جديدة لعام 2020. سيما أن المغرب – كما قال بذلك الأستاذ عبد الكبير طبيح - لم يعمل على إعداد ميزانيات طارئة واستعجالية لمواجهة الكوارث والدليل هو إحداث صندوق خاص لمواجهة هذه الجائحة وبالمناسبة هناك دول قد فكرت في القيام بذلك.

لكن ما يلاحظ، هو أنه إذا كانت الميزانية تبرمج لمدة 3 سنوات حسب القانون التنظيمي 13-130، فالحكومة إلى حدود الساعة لم تغير إلى الآن، هيكلة ميزانيتها إلى سنة 2023، مما يعني إعادة إنتاج الأزمة المتفاقمة. فالضرورة الاقتصادية والاجتماعية وكذلك السياسية تستوجب في أقرب فرصة ممكنة صياغة قانون مالي جديد يمر وفق المسطرة التشريعية المتعارف عليها والتي تمر منها جميع مشاريع القوانين. المطلوب إذن، ضرورة اعتماد مشروع قانون مالية تعديلي وذلك من أجل:

- إعادة النظر في أهم الفرضيات والمؤشرات والبيانات التقديرية التي تنبني عليها ميزانية 2020 وأساسا فرضية معدل النمو والبيان التقديري المتعلق بنسبة عجز الميزانية والتضخم؛

- إعادة النظر في منظومة موارد ونفقات الدولة وكذا سقف الاقتراض الخارجي؛

- إعداد إطار تشريعي مالي ينسجم مع الظرفية الاستثنائية للجائحة وينتج موارد إضافية للدولة.

من جهة أخرى نشير إلى أنه، إذا كانت ميزانية 2020 قد حدّدت الأولويات في مواصلة دعم السياسات الاجتماعية (الصحة، التعليم، الشغل، السكن، البطالة)، وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وإعطاء دينامية جديدة للاستثمار ودعم المقاولة، فإن هذه الأولويات في ظل ظروف وباء كورونا ينبغي إعادة النظر في ترتيبها والتركيز على المتطلبات الأساسية للمرحلة العصيبة لمعالجة تداعيات الأزمة حيث يجب:

- استيراد أو تصنيع المواد الصحية والأدوية الخاصة بهذا الوباء للاستشفاء والوقاية والحد من انتشار المرض، وكذلك أجهزة ومواد التعقيم؛

- التدخل على مستوى الميزانية لدعم الشركات المتضررة من الوباء؛

- إحداث صندوق خاص يدعم المقاولات المتضررة من الركود الاقتصادي، وكذا دعم الأشخاص أصحاب المشاريع الذاتية؛

- إحداث حساب خصوصي لمنح تعويضات جزافية لفائدة الأجراء العاملين بالمقاولات المتواجدة في وضعية صعبة؛

- توسعة وتأهيل المراكز الاستشفائية الجامعية عبر متابعة أشغال بناء وتجهيز المراكز الاستشفائية الجامعية الجديدة بكل من طنجة وأكادير والعيون؛

- تنفيذ التزامات الحكومة لتعزيز الخدمات الصحية الأولية (صيانة المباني، تحسين الاستقبال، التنظيف والحراسة في المرافق الصحية الأولية ومستشفيات القرب)؛

- استكمال عمليات بناء وإعادة بناء وتأهيل المستشفيات الاقليمية؛

- الحد من التفاوتات البين جهوية فيما يتعلق بالتأطير الطبي وتعزيز الموارد البشرية لضمان تشغيل المنشآت الصحية المكتملة؛

- مشاريع أخرى استعجالية لم نستحضرها، ومصاريف كثيرة غير متوقعة، والتي تتطلب تعبئة الموارد المالية للدولة، وهنا لا بد أن تكون الدولة واضحة مع مواطنيها، وأن تقدم المعطيات الواضحة والدراسات والتحاليل المحايدة والمقبولة والمعقولة.

وأعتقد أن الحديث عن ضرورة التفكير في قانون مالي جديد على الرغم من أن مرتكزات هذا المشروع لا زالت غير معروفة، قد بدأ يشغل اهتمام معظم الفاعلين الرسميين وغير الرسميين. فنظرا لحاجة المغرب الماسة إلى هذا القانون في هذا الظرف الاستثنائي طالبت فرق الأغلبية والمعارضة يوم الخميس 30 أبريل ضمن لجنة المالية بمجلس النواب خلال الاجتماع الذي خصص للمناقشة والتصويت على مشروع قانون رقم 26.20 الذي يقضي بتجاوز الاقتراض الخارجي، طالبت هذه الفرق حكومة سعد الدين العثماني بإعداد مشروع قانون مالية تعديلي، وذلك ضمن استراتيجية وطنية للإقلاع الاقتصادي، بهدف مواجهة التداعيات الكبيرة لفيروس كورونا على الاقتصاد الوطني.

أتصور أن الجميع أصبح مقتنعا بضرورة إيجاد قانون مالي جديد، فهذا فريق العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، شدّد على هذه النقطة خلال الاجتماع المذكور الذي قدمت خلاله مجموعة من المعطيات الصادمة والمهولة تهم صادرات المغرب ووارداته، بقوله على أن وضعية الاقتصاد المغربي تتطلب نقاشا واسعا بين الحكومة والبرلمان، موردا أن المغرب يحتاج إلى قانون مالية تعديلي للإقلاع الاقتصادي، لأن الطريقة التي دبرت بها الجائحة قادرة على تدبير مخلفاتها.

وزير المالية قال بدوره إن إعداد مشروع قانون مالية تعديلي ممكن، وهو مرتبط باليقين في الفرضية التي سيبنى عليها، مشيرا إلى أن "هناك عملا تقوم به الحكومة بالتشاور مع القطاعات والمؤسسات والمقاولات العمومية". من جهة أخرى قالت لجنة اليقظة الاقتصادية، في بلاغ لها، إن لقاءها كان فرصة لتعميق النقاش حول العديد من القضايا ذات البعد التشريعي التي أثيرت خلال الاجتماعات الأخيرة للجنة.

وقررت اللجنة أن يتم إدراج مجمل القضايا المثارة في إطار مشروع قانون المالية المعدل المقبل، الذي يرتبط إعداده بالسيناريو الماكرو-اقتصادي الذي سيتم اعتماده. ويظل الخيار النهائي رهينا بالطبع بتطور الظرفية الدولية على المستويين الاقتصادي والصحي من جهة، وبخطة الرفع التدريجي للحجر الصحي التي سيتم تطبيقها على المستوى الوطني من جهة أخرى.

من جهة ثانية أكد البرلماني عن حزب الاستقلال المنتمي إلى المعارضة أحمد التومي أن مراجعة قانون المالية كانت تبدو صعبة بالنظر إلى غياب "الفرضية الواضحة"، مؤكدا أن "ما يعيشه العالم من تقلبات يتطلب ضرورة إعداد قانون مالية تعديلي".

ودائما في المجال الذي نحن بصدده والمتعلق بضرورة إعداد قانون مالية تعديلي من المفيد أن نذكر ببعض الأمور والمعطيات الأساسية، هذه الأمور تتمثل في أن القانون المالي السنوي ليس قانونا مقدسا لا يقبل المراجعة، فهو كأي قانون لا يتصف بالكمال والخلود وغير قابل لكي يستمر على الدوام، كما يتطور مع تطور الظروف ويتغير حسب تغيرها. وطبعا إذا لم يستجب لهذا التطور فإنه سيصبح متجاوزا. وهذه الاستجابة تقتضي إذن أن يخضع قانون المالي السنوي للتعديل والمراجعة وذلك عن طريق إضافة بعض المقتضيات والأحكام والبنود والمواد للقانون الأصلي، أو حذف بعض المواد والبنود منها، أو عن طريق الإضافة والحذف معا. في هذا الاطار نجد أن القانون التنظيمي للمالية رقم 113.13 في المادة الـ4 منه ينص على أنه "لا يمكن أن تغير خلال السنة أحكام قانون المالية للسنة إلا بقوانين المالية المعدلة"، مضيفا في المادة الـ51: "يصوت البرلمان على مشروع قانون المالية المعدل في أجل لا يتعدى خمسة عشر (15) يوما الموالية لإيداعه من طرف الحكومة لدى مكتب مجلس النواب. ويبت مجلس النواب في مشروع قانون المالية المعدل داخل أجل ثمانية (8) أيام الموالية لتاريخ إيداعه".

وتبعا لهذا، نشير إلى أنه إذا كان المجال المالي من الناحية الدستورية من اختصاص البرلمان، فإنه في إطار ما أصبح يسمى "العقلنة البرلمانية"، تقلص هذا الاختصاص لفائدة الحكومة. فمؤسسة الحكومة أصبحت بمقتضى الدستور وكذا القوانين التنظيمية للمالية، هي المشرع الأصلي بينما البرلمان هو المشرع الاستثنائي، فالحكومة أضحى من حقها أن تقوم بالتصحيحات اللازمة أثناء تنفيذ قانون مالية السنة، كما اتسع نطاق أهليتها للتشريع مكان البرلمان في الميدان المالي (قانون الإذن).

فبالنسبة للنقطة المتعلقة بتصحيحات الحكومة خلال تنفيذ قانون المالية السنوي، نلفت نظر القراء والمهتمين بالموضوع، إلى أن الباب الرابع من القانون التنظيمي للمالية الجديد (13 -130) تضمن مجموعة من القواعد التي تمكن الحكومة من اتخاذ تدابير استعجاليه أثناء تنفيذ قانون المالية، وهي على الشكل التالي:

- ترشيد تدبير الموارد البشرية على مستوى الوظيفة العمومية بأكملها وذلك بمنح الحكومة إعادة نشر مناصب الشغل المتوفرة وتوزيعها على الوزارات حسب الحاجيات، علما أن هذه الصلاحيات تنحصر حاليا في تحويل المناصب من درجة إلى أخرى داخل نفس الوزارة (المادة 61 من القانون المذكور أعلاه)؛

- التوقيف المؤقت لاستخدام المناصب المالية علما أن حذف المناصب لا يمكن أن يتم إلا بموجب قانون المالية؛

- السماح بتجاوز الإعتمادات الخاصة بالدين العمومي والدين العمري. غير أن الاعتمادات المتعلقة بالنفقات المرتبطة بالدين العمومي والدين العمري وبالتسديدات والتخفيضات والإرجاعات الضريبية لها طابع تقديري. ويمكن أن تتجاوز هذه النفقات المخصصات المقيدة في البنود المتعلقة (الفقرة الثالثة من المادة 58 من القانون 13 – 130)؛

- في حالة تجاوز الاعتمادات المفتوحة برسم النفقات المشار إليها في الفقرة السابقة، يتم إثباتها والإذن بتسويتها في قانون التصفية المتعلق بتنفيذ قانون المالية للسنة المعنية؛

- في حالة تجاوز الإعتمادات المقررة لأجور الموظفين والأعوان، لا تؤخذ بعين الاعتبار سوى الأحكام الواردة في الأنظمة الأساسية المطبقة على هؤلاء في تاريخ دخول قانون المالية حيز التنفيذ، وذلك بهدف التحكم في هذا الصنف من النفقات (المادة 58 من القانون 130.13). إن الاعتمادات المفتوحة محدودة، لا يجوز الالتزام بالنفقات والأمر بصرفها وأدائها إلا في حدود الاعتمادات المفتوحة.

- وبالنسبة لنفقات الموظفين والأعوان، لا يجوز الالتزام بهذه النفقات والأمر بصرفها وأدائها إلا في حدود الاعتمادات المفتوحة برسم الفصل... في حالة تجاوز الاعتمادات المفتوحة برسم النفقات المشار إليها في الفقرة السابقة، يتم إثباتها والإذن بتسويتها في قانون التصفية المتعلق بتنفيذ قانون المالية للسنة المعنية)؛

- تحديد شروط الاقتطاع من الفصل المتعلق بالنفقات الطارئة والمخصصات الاحتياطية؛

- ترحيل اعتمادات الأداء المتوفرة برسم نفقات الاستثمار إلى السنة الموالية (المادة 62 من ق ت ج )؛

- يجوز للحكومة أثناء السنة المالية وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار إذا استلزمت ذلك الظروف الاقتصادية والمالية. ويتم إخبار اللجنتين المكلفتين بالمالية بالبرلمان مسبقا بذلك؛

- أيضا إذا كانت من الناحية القانونية، لا يجوز أن ترحل الاعتمادات المفتوحة في الميزانية العامة برسم سنة مالية إلى السنة الموالية، فإن اعتمادات الأداء المفتوحة برسم نفقات الاستثمار بالميزانية العامة وأرصدة الالتزام، المؤشر عليها والتي لم يصدر الأمر بصرفها، ترحل، ما لم ينص قانون المالية للسنة على خلاف ذلك، في حدود سقف ثلاثين في المائة (%30) من اعتمادات الأداء المفتوحة بميزانية الاستثمار لكل قطاع وزاري أو مؤسسة برسم السنة المالية.

هذا وتجدر الاشارة إلى أن إجراءات الترحيل تحدد بنص تنظيمي، ويمكن تخفيض السقف المشار إليه أعلاه بموجب قانون للمالية، وتضاف الاعتمادات المرحلة إلى اعتمادات الأداء المفتوحة بموجب قانون المالية للسنة".

أما بالنسبة للنقطة المتعلقة باتساع نطاق أهلية الحكومة للتشريع مكان البرلمان في الميدان المالي، ينص الفصل 70من دستور 2011 في فقرته الثانية: "للقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود، ولغاية معينة، بمقتضي مراسيم تدابير يختص القانون عادة باتخاذها، ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها. غير أنه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة، عند انتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن بإصدارها، ويبطل قانون الإذن إذا ما وقع حل مجلسي البرلمان أو أحدهما". يتضح من خلال هذا الفصل أنه بإمكان البرلمان أن يأذن ويرخص للحكومة بالتشريع مكانه، وبالنسبة للمجالات المالية التي يأذن البرلمان للحكومة التشريع فيها والمحددة بمقتضى النصوص التنظيمية للمالية وكذا قانون مالية السنة هي:

- إحداث مرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة (S.E.G.M.A) (المادة 64 من قانون المالية سنة 2005)؛

- تغيير أسعار أو وقف استيفاء الرسوم الجمركية وغيرهما من الضرائب والرسوم المفروضة على الواردات والصادرات، وكذا الضرائب الداخلية على الاستهلاك (الفقرة الأولى من المادة 2 من نفس قانون المالية )؛

- إصدار الاقتراضات الخارجية (المادة 75 من نفس قانون المالية )؛

- إصدار الاقتراضات قصد التسديد المسبق للاقتراضات المبرمة بأسعار فائدة تفوق الأسعار المعمول بها في السوق (المادة 56 من قانون المالية سنة 1999-2000).

- تحديد ظروف تدبير الميزانية بحيث تم توسيع صلاحيات الحكومة فيما يخص:

1. إرجاء تنفيذ بعض النفقات؛

2. إعادة نشر مناصب الشغل بين الوزارات وتجميد استعمال بعضها؛

3. فتح اعتمادات إضافية خلال السنة في حالة ضرورة ملحة ذات مصلحة وطنية أو في مقابل الأموال المدفوعة من قبل أشخاص معنويين أو طبيعيين للمساهمة في اتفاقات ذات مصلحة عامة؛

- إحداث الحسابات الخصوصية للخزينة خلال السنة المالية (المادة 18 من القانون رقم 130.13)؛

- فتح الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية واستخلاص المداخيل في حالة عدم التصويت على قانون مالية السنة قبل بداية السنة المالية، أو إذا لم يصدر الأمر بتنفيذه بسبب إحالته إلى المجلس الدستوري؛

- الاقتطاعات من فصل النفقات الطارئة؛

- فتح اعتمادات إضافية خلال السنة المالية (المادة 60 من القانون 130.13)؛

- وقف تنفيذ نفقات الاستثمار خلال السنة المالية (المادة 45 من القانون 98 - 07).

عبد اللطيف بكور