مقدمات:

تدور هذه الورقة حول بعض القضايا الأخلاقية والسياسية التي يثيرها أو يكشف عنها سياق الطوارئ الصحية، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.

وأبدأ حديثي بجملة من المقدمات التي أُذكِّرُ فيها ببعض الجوانب والمظاهر التي تنكشف من خلالها الجائحة، والتي يمكن إجمالها في الأمور التالية:

عنصر المفاجأة: لا أقصد أن الجائحة كانت خارج نطاق التوقع تماما، فكثيرون (أفراداً وهيئاتٍ) ما انْفَكُّوا منذ وقتٍ طويل، وبالأخص في السنوات الأخيرة، يحاولون إثارةَ الانتباهِ إلى هذا النوع من المخاطر التي أصبحت تُحدق بالعالم وبالإنسانية وتوشك أن تَخِرَّ عليهما؛ بل أقصد أن الجائحة قد اجتاحت العالم بسرعةٍ فائقةٍ جعلت ما كان مجردَ خطرٍ محدقٍ يصبح فجأةً، وعلى حينِ غَرَّةٍ، خطراً داهماً لنا ومُقيماً بين ظُهْرَانَيْنَا.

عنصر الجِدَّة: إن التاريخ، بعيده وقريبه، قد حمل إلينا أخبارَ كثيرٍ من الأوبئة والجوائح التي ضربت أصقاعاً واسعة من الأرض في أزمنةٍ وأمكنةٍ عديدة. لكن معرفتنا التاريخية بالماضي هي ذاتُها ما يَشْهَدُ اليومَ على جِدَّةِ الجائحةِ التي ضربت عالمَ هذا الزمان. وتتجلى هذه الجِدَّةُ، بالخصوص، فيما ترتَّب عنها من حَيْرةٍ واضطرابٍ شديدين أصابا الدول والمجتمعات والأشخاص. بل إن غياب "أشباهٍ ونظائر" يمكن القياس عليها (من دون إسقاطِ الفوارق النوعية) قد جعل القناعة تترسَّخ لدى الكثيرين بأن حَلَّ مُعْضِلة هذه الجائحة يمر بالضرورة عبر إبداع وتصور آليات جديدة في جل مناحي الحياة الاجتماعية والفردية.

مدى الاتساع: إن نطاق الجائحة لم ينحصر في منطقة معزولة بل طال كل جغرافية الأرض (تقريبا)، وفرض العزل على جل ساكنتها. فَصِرنا نتحدث، منذ أشهرٍ، عن ظاهرة عالمية شملت جميع القارات وغالبية الدول والمجتمعات. ثم إن نطاق الجائحة لم ينحصر في مجال بعينه (الصحة مثلاً)، بل شمل جُلَّ (إن لم نقل كل) أنشطة ومجالات الحياة الاجتماعية (اقتصاداً وتعليماً وأمناً، الخ).

شدة الوَقْع: لقد أحدثت الجائحة رَجَّةً هائلة كان لها، ولا يزال، وقعٌ شديد على كينونة وحياة الدول والمجتمعات والأشخاص. ومن تجليات ذلك، ما نراه اليوم عياناً (ناهيكم عما سيُسفر عنه المستقبل وما ستكشفه الأبحاث والدراسات على الأمدين القريب والمتوسط) من اختلالٍ واضطراب ظاهرَيْن في جل الأنشطة الجماعية والفردية (على سبيل المثال لا الحصر: نظام الاشتغال، إيقاع الحياة، نمط العمل، سيرورة الإنتاج، عمليات التوزيع، سير المرافق المختلفة، العوائد الاجتماعية، العلاقات البينية، بل وحتى الحياة الشخصية). وإذا كانت فداحة الوَقْع الحالي للجائحة قد أصبحت معروفة بدرجة كافية -أو على الأقل، هي بصدد التكشف والتوضُّح بصورة تدريجية-، فإن المقدار الحقيقي لشدة وقع هذه الجائحة لا يمكن تَوَسُّمُه إلا من خلال ما يلوح في أفقِ المستقبل من تبعاتٍ وارتدادات وانعكاسات. والراجح، وفقاً للعديد من المؤشرات القوية، أن هذا الوَقْع المستقبلي لن يكون مجرد امتدادٍ لما هو حاصل اليوم (وإن كان صحيحاً أن العديد من آثار الأزمة الراهنة ستبرز بصورة أقوى لاحقا)، بل سيحمل معه أشكالاً ومظاهر جديدة للأزمة لا نعرف كثيراً من ملامحها، غير أننا نتوقع منذ الآن أن مفعولها سيكون جسيماً على أكثر من صعيد (الاقتصاد، السياسة، العلاقات الدولية، الخ).

الطابع العالمي: لا أقصد هنا فقط ما ذكرته سابقا من أن الجائحة قد شملت قارات الأرض كاملة، بل أقصد أننا أصبحنا نعيش في عالم واحد بفعل الترابط القوي الذي أقامته العولمة بين أجزائه وأطرافه. فنحن نعيش في عصر الأسواق المفتوحة والتنقلات الدولية والسياحة الداخلية والخارجية وقنوات الأخبار المتواصلة والبث المباشر ووسائط التواصل الاجتماعي. ويشكل هذا الترابط أحد الأوجه المهمة التي ينبغي استحضارها لفهم الجوائح.

الغموض واللا-يقين: يتصف الوجود عموما بالغموض واللا-يقين، لكن مقدار الغموض واللا-يقين يزداد بصورة كبيرة في أوقات الجوائح، وليس مَرَدُّ ذلك فقط إلى جدة العوامل الـمُمْرِضَة التي تناسلت في الآونة الأخيرة، بل مَرَدُّهُ أيضاً إلى تشابك وتداخل وتعقيد الأبعاد والعوامل العديدة التي أصبحت تنطوي عليها الجوائح في السياق الحالي (خصوصاً في علاقةٍ مع واقع العولمة وما ترتب عنه على جميع الأصعدة: البيئة، العمران، النقل، الإنتاج، الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، الخ).

يتضح من هذه العناصر أن الأمر يتعلق هنا بواقعة معقدة تتداخل فيها أبعاد وعوامل كثيرة ومتنوعة، ولذلك لا بد من مقاربتها من منظور قادر على استيعاب تعقيدها وتشابك عناصرها. فالظواهر المركبة لا يمكن رفع تحدياتها بموارد الفكر التبسيطي، الاختزالي، الخطي والأحادي. كما أن الظواهر التي تنطوي على قدر مهم من الغموض واللا-تحدد واللا-يقين لا يمكن معالجتها بمرجعيات يقينية، دغمائية ومنغلقة.

1. بعض القضايا الأخلاقية المرتبطة بالجائحة:

تجدر الإشارة أولاً أن التفكير في الجوانب الأخلاقية المرتبطة بالجوائح يندرج في إطارٍ أوسع، هو مبحث البيوإتيقا. والمقصود بالبيوإتيقا، اختصاراً، ذلك المبحث الذي يدرس "القضايا الأخلاقية التي يطرحها الطب وعلوم الحياة والتكنولوجيات المرتبطة بهما في تطبيقاتها على البشر، مع مراعاة أبعادها الاجتماعية والقانونية والبيئية" (المادة 1 من "الإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان")

وقد نشأ هذا المبحث في النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين بالولايات المتحدة الأمريكية، وعرف منذ ذلك الحين تطورا هائلا في مضامينه ومناهجه ومرجعياته، كما عرف انتشارا واسعا في الجامعات والمعاهد والكليات عبر العالم. وقد أصبح هذا المبحث موضوعا لبرامج كبرى، أهمها برنامج اليونسكو الذي انطلق سنة 1993 وأثمر نتائج هامة، من قبيل تأسيس لجان أخلاقية عالمية وإنتاج وثائق دولية نجحت في تقديم إطار مرجعي دولي متوافق حوله. وأهم هذه الوثائق هو : "الإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان" الصادر سنة 2005. إن الفكرة الأساسية التي أود التشديد عليها في هذه اللمحة التاريخية الموجزة، هي أن البيوإتيقا (أي التفكير الأخلاقي في العلوم والتكنولوجيات) لا تنفصل بتاتا عن حقوق الإنسان: فالغاية النهائية للتفكير والفحص الأخلاقيين للعلوم والتكنولوجيات هو ضمان وحماية حقوق الإنسان (كما يظهر ذلك بجلاء في "الإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان").

يشكل التفكير في المشكلات الأخلاقية المتعلقة بتفشي الجوائح واحداً من الاهتمامات الرئيسية لدى اللجان والهيئات المختصة في مجال البيوإتيقا. ولإبراز أهمية هذا الانشغال بالاعتبارات الأخلاقية المرتبطة بالطوارئ الصحية، سنقدم بعض النماذج المفيدة التي حرصنا في اختيارها على مراعاة المستويات أو الأبعاد الوطنية والإقليمية والعالمية في مواجهة جائحة كوفيد-19.

المثال الأول: اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات (CCNE) بفرنسا

تأسست هذه اللجنة سنة 1983، وكانت بذلك أول لجنة وطنية من نوعها على صعيد العالم. وبتاريخ 13 مارس 2020، عرضت رؤيتها بخصوص المعالجة الأخلاقية للجائحة من خلال الوثيقة التي قدمتها جواباً على ملتمس الوزير المكلف بالصحة والتضامن، وكان عنوانها: "كوفيد-19: الرهانات الأخلاقية المرتبطة بمواجهة الجائحة" (Enjeux éthiques face à une pandémie).

بدأت هذه الوثيقة، بعد التذكير بسياق ورودها، بالإشارة إلى جملة من المبادئ الأخلاقية التي يتعين أخذها بعين الاعتبار، والتي سبق تفصيل القول فيها ضمن الرأي الاستشاري رقم 106 الصادر سنة 2009 تحت عنوان: "المسائل الأخلاقية التي تثيرها جائحةُ أنفلونزا محتملة" (Questions éthiques soulevées par une possible pandémie grippale). وكان هذا الرأي قد ميز بين قضايا أخلاقية عامة ترتبط بالجائحة كيفما كان نوعها، وقضايا أخلاقية خاصة ترتبط بجائحة الأنفلونزا تحديداً. ضمن النوع الأول، تم التطرق إلى المسائل التالية: 1) مبدأ العدالة وواجب التضامن (سواء على المستوى الدولي من خلال التضامن مع الدول الفقيرة أو على المستوى المحلي من خلال التضامن مع الفئات الهشة)، 2) مخاطر التمييز والوصم، 3) وضع الحقوق والحريات في زمن الجائحة، 4) التكامل بين مبدأ التضامن ومبدأ الاستقلالية، 5) المسائل الأخلاقية المرتبطة بالجوانب الاقتصادية. أما ضمن النوع الثاني، فقد تم التطرق إلى المسائل التالية: 1) تحديد الأولويات بشأن تخصيص موارد ووسائل مواجهة الجائحة، 2) حقوق وواجبات الفئات المهنية ذات الأولوية، 3) المسائل الأخلاقية المرتبطة بتأثير الجائحة على سير المرفق الصحي.

أما القسم الرئيسي في الوثيقة، فقد تمثل في عشرة مسائل اعتبرتها اللجنة أساسية في سياق مواجهة جائحة كوفيد-19، وهي كالآتي: 1) أهمية المسؤولية الـمُواطنة؛ 2) الاعتماد في عملية صنع القرار السياسي على الخبرة الصحية ومشاركة المجتمع المدني؛ 3) استناد التدابير الإلزامية إلى إطار قانوني وأخلاقي متين وإلى الحس البيداغوجي؛ 4) التركيز بصفة خاصة على الفئات الهشة؛ 5) التواصل بشفافية ومسؤولية وربط صلة أقوى بالجسم الاجتماعي؛ 6) حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي؛ 7) استحضار السياق العالمي؛ 8) ضرورة إدماج جهود البحث العلمي في إطار دولي؛ 9) مسؤولية قطاع الصناعة الدوائية؛ 10) أهمية التفكير الأخلاقي لضمان استفادة جميع المرضى من الرعاية الصحية.

المثال الثاني: لجنة البيوإتيقا التابعة للمجلس الأوروبي (DH-BIO)

أصدرت لجنة البيوإتيقا التابعة للمجلس الأوروبي، بتاريخ 14 أبريل 2020، بياناً حول "مسائل حقوق الإنسان المرتبطة بجائحة كوفيد-19" (Déclaration du DH-BIO sur les considérations en matière de droits de l homme relatives à la pandémie COVID-19).

يبدأ هذا البيان، في فقرته الأولى، بالتذكير بالجوانب الأساسية في الأزمة المرتبطة بكوفيد-19، والتي تتمثل بالأساس فيما يلي: شمول الأزمة لدول أوروبا والعديد من دول العالم؛ الوقع الشديد للأزمة على الأفراد والمجتمعات والأنظمة الصحية؛ العدد المرتفع لحالات الإصابة الخطيرة؛ وضرورة اتخاذ قرارات عسيرة في سياقٍ يتميز بنُدرة الموارد. ثم يشير بعد ذلك، في فقرته الثانية، إلى عدد من المبادرات التي سارعت إلى اتخاذها العديدُ من فرق الخبراء ولجان الأخلاقيات، والتي أثمرت مجموعة من البيانات المهمة، من قبيل بيان اليونسكو (الذي سنتناوله لاحقاً) وبيان الفريق الأوروبي لأخلاقيات العلوم والتكنولوجيات الجديدة (EGE). أما باقي فقرات البيان (من الفقرة 3 إلى الفقرة 14)، فتعرض أهم المبادئ الأخلاقية التي يجب إعمالها في سياق الجائحة، والتي نجملها فيما يلي: 1) ربط جميع القرارات والممارسات بمُقتضى احترام الكرامة الإنسانية وحماية حقوق الإنسان؛ 2) ضرورة الاستمرار في إعمال اتفاقية أوفييدو (Convention d Oviedo sur les droits de l homme et la biomédecine) حتى في سياق الطوارئ وتدبير الأزمة الصحية؛ 3) ضمان العدالة والإنصاف في الاستفادة من الرعاية الصحية رغم ندرة الموارد؛ 4) احترام مرجعية النظام الديمقراطي ودولة الحق والقانون ومبادئ حقوق الإنسان (بما في ذلك حماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية) في كل عمليات جمع ومعالجة البيانات الصحية للأفراد وكذا في استعمال التكنولوجيات الرقمية والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي؛ 5) ضرورة الالتزام بالمساطر القانونية ومراعاة شروط الضرورة والتناسب أثناء اتخاذ أي إجراء يقيد أو يحد من ممارسة الحقوق والحريات الفردية لغرض حماية المصالح المشتركة؛ 6) احترام الضوابط الأخلاقية المتعلقة بإجراء البحوث البيولوجية والطبية على الإنسان؛ 7) أهمية الربط بين حقوق الإنسان ومبدأي التضامن والاستقلالية من أجل التغلب على الجائحة؛ 8) ضرورة التنسيق الأوربي والتعاون الدولي وتعزيز المسؤولية الفردية والمجتمعية؛ 9) الحاجة إلى مبادرات سريعة ومنسجمة من أجل تحقيق القدرة على رفع تحديات الجائحة.

المثال الثالث: لجنة اليونسكو الدولية لأخلاقيات البيولوجيا (CIB) ولجنة اليونسكو العالمية لأخلاقيات المعارف العلمية والتكنولوجية (COMEST)

أصدرت اللجنتان المذكورتان، بتاريخ 26 مارس 2020، بياناً مشتركاً تحت عنوان "بيان بشأن وباء كوفيد-19: الاعتبارات الأخلاقية من وجهة نظر عالمية" (الترجمة العربية الرسمية صدرت بتاريخ 6 أبريل 2020). وتتمثل الميزة الرئيسية لهذا البيان في كونه ينطلق من رؤية تعتبر أن التصدي للجائحة يتطلب "التفكير واتخاذ إجراءات على الصعيد العالمي"، وأن المسائل الأخلاقية العديدة التي تترتب عن الجائحة تستدعي "تنحية اختلافاتنا جانبا والتفكير بصورة جماعية في حلول مقبولة من الناحية الأخلاقية". هذا المنظور العالمي جعل اللجنتين تشددان على ضرورة "تجاوز الانقسامات السياسية والحدود الجغرافية والاختلافات الثقافية، من أجل التركيز على حاجتنا ومسؤوليتنا المشتركتين اللتين تقتضيان خوض الحوار من أجل إيجاد أنسب التدابير للتغلب على هذا الوضع الكارثي". وفي نفس السياق، اعتبرت اللجنتان أن دور لجان الأخلاقيات في هذا النوع من الأزمات، يتمثل أساساً في "دعم الحوار البناء القائم على القناعة الراسخة بوجوب استناد القرارات السياسية إلى أسس علمية واسترشادها بالاعتبارات والتوجيهات الأخلاقية".

يتضمن هذا البيان المشترك للجنتي اليونسكو 11 فقرة تهدف في مجموعها إلى "تأكيد بعض المسائل الأخلاقية المهمة من وجهة نظر عالمية"، وكذا إلى "مناشدة الحكومات اتخاذ تدابير عاجلة" تستند إلى ما ورد فيها. ويمكن إجمال مضامين هذه الفقرات فيما يلي:

الفقرة 1: ضرورة استناد السياسات إلى أدلة علمية متينة، مع مراعاة الغموض الذي يسود خلال انتشار الجوائح؛ ضرورة تضافر الجهود الدولية؛ ضرورة إعطاء الأولوية للصحة؛ ضرورة الحوار المنفتح بين العلم والأخلاقيات والسياسة والقانون.

الفقرة 2 تحذر من التعامل مع الجائحة الجديدة انطلاقا من النماذج السابقة، وتشدد على أن السياسات التي لا تستند إلى معارف وممارسات علمية متينة (كما هو الحال بالنسبة للسياسات التي ترتكز على مفهوم "مناعة القطيع") هي سياسات غير أخلاقية.

الفقرة 3 تذكر بكون الجوائح تبرز مكامن القوة والضعف في أنظمة الرعاية الصحية، وتدعو الدول إلى إيلاء أهمية قصوى في برامجها لتخصيص الموارد الضرورية وبناء أنظمة متينة للصحة العامة.

الفقرة 4 تنبه إلى تفاقم وضع الأشخاص الأكثر عرضة للمخاطر في أوقات الجوائح، وتدعو إلى مراعاة كافة أشكال الهشاشة (المرتبطة بالسن أو الجنس أو الفقر أو المرض أو السجن أو الهجرة، الخ)، والنظر في وضع استراتيجيات لدعم الأشخاص الذي يعانون منها.

الفقرة 5 تبين أن السبيل الوحيد لضمان الحق في الصحة هو القيام بواجبنا الفردي والجماعي فيما يتعلق بالصحة (مسؤوليات الحكومات عن ضمان الأمن والصحة والتوعية، مسؤوليات الناس عن الالتزام بالقواعد، ومسؤوليات العاملين في قطاع الصحة عن تقديم العلاج والرعاية للمرضى).

الفقرة 6 تتناول مسألة تقديم المعلومات في زمن الطوارئ الصحية (سواء من قبل السياسيين أو العلماء أو السلطات أو وسائل الإعلام)، وتشترط بهذا الصدد: أولا، أن تصدر المعلومة في وقتها وأن تكون دقيقة وواضحة ووافية وشفافة؛ ثانيا، أن يتم نشر أصناف متنوعة من المعلومات (التي تكون ملموسة وعملية ومفهومة) من أجل إفادة جميع الأشخاص والشرائح المجتمعية؛ ثالثا؛ أن تكون الرسالة متوازنة منعا لإشاعة الهلع أو الاستخفاف بخطورة الأوضاع.

الفقرة 7 تتطرق لأنشطة البحث والتجارب السريرية لإيجاد علاج ولقاح لمرض كوفيد-19، وتدعو إلى تنسيق الجهود الدولية وبلورة فهم مشترك لإجراءات الفحص الأخلاقي لتلك البحوث والتجارب.

الفقرة 8 تؤكد أن الحاجة المـلحة إلى إيجاد علاج للجائحة لا يجب أن يحول دون تطبيق الممارسات البحثية المسؤولة، وتشدد على ضرورة استمرار لجان الأخلاقيات في أداء مهامها (المتمثلة في فحص الجوانب الأخلاقية للأنشطة البحثية) بلا انقطاع.

الفقر 9 تتناول الدور المهم للتكنولوجيات الرقمية في التعامل مع الجائحة، وتشدد على ضرورة معالجة المسائل الأخلاقية والاجتماعية والسياسية المرتبطة باستعمال هذه التكنولوجيات بصورة تحترم حقوق الإنسان، وتوازن بين قيم الاستقلالية والخصوصية من جهة وقيم السلامة والأمن من جهة ثانية.

الفقرة 10 تحذر من البحث عن ملاذٍ من الجائحة في الإقصاء والانعزال والكراهية والتمييز، وتدعو في المقابل إلى بناء أواصر التضامن والتعاون على جميع المستويات (الحكومات والقطاع العام والخاص والمجتمع المدني والمنظمات الدولية والإقليمية).

الفقرة 11 والأخيرة تدعو إلى اختيار التعاون والتضامن الدوليين عوض التركيز على المصالح الوطنية الضيقة، وتؤكد مسؤولية الدول الغنية عن مساعدة الدول الفقيرة، كما تدعو إلى التصدي لجميع أنواع الاتجار غير المشروع و/أو الفساد.

2. بعض القضايا السياسية المرتبطة بالجائحة:

أنتقل الآن إلى الشق الثاني الذي يتعلق ببعض القضايا السياسية المرتبطة -بشكل أو بآخر- بسياق هذه الجائحة التي يعاني عالمنا اليوم من وطأتها. وأبدأ بالإشارة السريعة إلى بعضٍ من ملامح السياسة كما تتجلى واقعيا، سواء على المستوى الدولي أو المحلي.

فعلى المستوى الدولي، يلاحظ الجميع أن الفعل السياسي يغلب عليه الارتهانُ لنفوذ وسلطة الاقتصاد النيوليبرالي القائم على أسواق عولمية حرة تكاد تكون خاضعة كليا لمصالح تجمعاتٍ صناعية ومالية كبرى. هذا الارتهان للمصالح الاقتصادية الخاصة، جعل النظام العالمي محكوما بعلاقات تنافسٍ وصراعٍ شديدين بين القوى الكبرى، وهو ما أفضى تدريجيا إلى شللٍ شبه كامل للمنظمات والهيئات الدولية التي كان يُعوَّل عليها لبناء منظومةٍ عالمية تخدم الإنسانية جمعاء. وهكذا أصبح العالم ساحة حرب كبرى (حروب حقيقية أو حروب مستترة وخفية؛ حروب مباشرة أو بالوكالة؛ حروب تقليدية أو حروب اقتصادية وتكنولوجية؛ الخ). [اُنظروا على سبيل المثال، في سياق هذه الجائحة، إلى "الحرب" التي دارت في أروقة منظمة الصحة العالمية وانتهت بالموقف الأمريكي المعروف]. ومن نتائج النظام النيوليبرالي أيضا، أن مظاهر التفاوت الاقتصادي والاجتماعي قد تفاقمت بشكل مَهُولٍ، واتسع نطاقها داخل البلدان وعلى صعيد العالم بصورةٍ مقلقة للغاية. ومن الطبيعي أن هذا الواقع السياسي الدولي سيكون له العديد من الانعكاسات السلبية والمباشرة، خاصة في أوقات الأزمة كما هو الحال اليوم: فالجميع تابع، خلال الشهور الأخيرة، كيف طغت المصالح الضيقة على مشهد التعامل مع الجائحة، وكيف غابت أو كادت تغيب المبادرات الحقيقية للتنسيق ومُضافرة الجهود بين الدول والمجتمعات (حتى داخل تجمعات إقليمية راسخة وقوية مثل الاتحاد الأوروبي).

أما على المستوى المحلي، فتكفي الإشارة إلى أمرين: أولاً، كما هو شأنُ غالبية البلدان التي يقال عنها "سائرة في طريق النمو"، يدور بلدنا في فلك المنظومة الدولية المحكومة بمنطق "القوي يأكل الضعيف". إننا، بشكل عام، لا نملك سوى هامشٍ ضيقٍ مما يمكن أن نُطلق عليه "السيادة الاقتصادية" (ولكم أن تتصوروا تبعاتِ ذلك على مستوى "السيادة السياسية" بشكل عام، وعلى مختلف القرارات والقطاعات التي تتأثر بشكل مباشر بالاختيارات السياسية والاقتصادية -إن جاز الحديث هنا فعلا عن خيارات-). والأمر الثاني، أن الممارسة السياسية قد أصبحت منفصلة إلى حد كبير عن الصالح العام، وغدت قاصرةً أو محدودةَ القدرةِ على الاستجابة لحاجات وتطلعات المواطنين، حتى صارت -في غالبية الأذهان- مرادفاً للانتفاع الشخصي. وحاصلُ كل هذا: مشاكلُ لا حصر لها في جميع المجالات، وضعفٌ هيكلي وبنيوي في جل القطاعات، وهشاشةٌ اقتصادية واجتماعية اكتسحت شرائح واسعة (تعد بالملايين) من الساكنة.

فما الدروس السياسية التي يمكن استخلاصها من الجائحة؟

لتقديم بعض عناصر الإجابة عن هذا السؤال، أنطلق من الأسئلة البسيطة التالية:

هل كان المواطن، قبل الجائحة، يطرح السؤال (مثلا) عن عدد أسرة الإنعاش أو عدد أجهزة التنفس الاصطناعي؟ هل كان يتساءل عن حالة المنظومة الصحية بشكل عام؟ أم أنه كان يكتفي بالتذمر بشكل فردي عندما لا يستفيد هو شخصيا من خدمات الرعاية الصحية؟

هل كان المواطن قبل الجائحة يتساءل عن وضعية التعليم في بلده، وعن نوع ومضامين البرامج التعليمية أو المناهج التربوية؟ أم أنه كان في الغالب لا مباليا ويكتفي عند وقوع مشكل خاص لأبنائه في المدرسة بصب جَامِ غضبه على من يصادفه في طريقه (مدرس، مدير، الخ)؟

هل كان المواطن، قبل الجائحة، يفكر في طريقة توجيه وتنظيم الاقتصاد والإنتاج؟ وهل كان يتساءل عن دور الدولة وواجبات المواطن وطريقة تخصيص الموارد ووضع الأولويات؟ وكيف كان ينظر، على سبيل المثال، إلى الطبيب والممرض والأستاذ ورجال الأمن والعاملين في قطاعات الإنتاج الفلاحي وصناعة المواد الأساسية وعمال النظافة؟

وباختصار، هل كان المواطن مواطنا، أي عنصراً في كيانٍ عام (في دولة وفي مجتمع) ومنشغلا بالقضايا التي تهمه من حيث هو جزء من كل؟ أم أنه كان مجرد فرد معزول ومنعزل، غارقٍ في مشاكله أو حريصٍ على مصالحه؟

إنني لا أدَّعي بطرح هذه الأسئلة أن المواطن قد أصبح بفضل الجائحة غير ما كان عليه في السابق، بل أريد القول فقط إن الجائحة قد أدت دوراً هاما من حيث أنها أعادت هذا النوع من الأسئلة إلى الوعي، ومنحتها المشروعية والأولوية.

وأتصور بشكل عام أن الجائحة قد فرضت على كثير من الناس طرح سؤال الصحة، وسؤال التعليم، وسؤال العدالة الاجتماعية، وجعلت أذهانهم مهيأة وأكثر قابلية لمناقشة واستيعاب هذا النوع من الأسئلة الجوهرية بالنسبة للوجود المشترك. وهذا معناه أن الجائحة يمكن أن تشكل فرصة حقيقية لعودة أو انتعاش السياسة بمعناها الأصيل، أي بوصفها تفكيراً وممارسة جماعيين من أجل بناء إطارٍ للعيش المشترك، تُضمَن فيه الحقوق والحريات وتَـتَـحَقَّــقُ فيه قيم العدالة والتضامن.

إن الجائحة وما رافقها من تجربة الحجر قد أماطا اللثام عما يحتاج إليه الإنسان فعلاً، أو عما يحتاج إليه بالأولى، أي ما تتوقف عليه فعلاً الحياةُ الكريمة للأفراد والجماعات. ولذلك، لا بد للسياسة أن تسترشد بما كشفته هذه الجائحة مرة أخرى، وهو أن تجعل رهانها حقّاً هو الصالح العام الذي توضحت معالمه الآن بصورة كافية.

إن خارطة الطريق قد أصبحت واضحة المعالم : فإما أن تقترن السياسة بالصالح العام (متجسداً في الحاجات الأولوية التي أبرزتها الجائحة بجلاء)، وإما أن لا تكون. فالسياسة هي ما يجمع ويوحد، هي ما يخلق من الكثرة كيانا موحدا ومتماسكا ومتعاضدا، والحالُ أن لا وحدة ولا تماسك ولا تعاضد من دون إرادةٍ عامة يكون هدفها الأوحدُ رعايةَ المصالح المشتركة. ومن هنا الاقترانُ الذي لا يقبل الانفصال بين السياسة الحقة وخدمة الصالح العام. أما الممارسات "السياسية" المتوحشة -التي لا تخدم، على مستوى العالم وعلى صعيد الدول والمجتمعات، سوى مصالح الأقوياء وذوي النفوذ-، فليس لها من السياسة سوى الاسم: إنها تُمثِّل تهريباً ماكراً للفظ السياسة.

هذا على مستوى الغاية.

أما على المستوى العملي، فأرى، بالخصوص، ما يلي:

فيما يتعلق بالدولة: يتضح من سرعة الاستجابة وطبيعة الإجراءات الـمُتخذَة لمواجهة الجائحة وبعضٍ من تبعاتها، أن الدولة مُدركةٌ لحجم المشاكل التي تراكمت في جميع القطاعات الأساسية، وواعيةٌ بالمخاطر التي ينطوي عليها الوضع العام للبلاد. ولذلك يتعين، منذ الآن، ترجمة هذا الوعي عبر إعادة توجيه دفة السياسة، في اتجاه خلق أجواءِ الانفراج المطلوبة لبناء وتفعيل نموذجٍ حقيقي للديمقراطية والتنمية والعدالة، تفاديا لما يمكن أن تؤدي إليه أزماتٌ كبرى (وهذا هو درس الجائحة) من نتائج كارثية على الدولة والمجتمع والمواطنين.

أما فيما يتعلق بالمواطنين، فالمطلوب بالأساس أن يبادروا إلى اقتحام الشأن العام وخوض الصراع السياسي بجميع أشكاله المشروعة وعلى جميع واجهاته المفتوحة. لا بُدَّ أن يتعلم المواطنون "حشر أنوفهم فيما يعنيهم"، مع ما يقتضيه ذلك (خاصة من جهة الشباب) من إبداع أشكال تنظيمية وتواصلية جديدة، وما يتطلبه (خاصة من جهة النخب) من بناء مرجعياتٍ فكرية قادرة على تغذية وتوجيه المشاركة المجتمعية في سياقٍ بالغ التعقيد دوليا وإقليميا ومحليا.

وختاما، أرى أنه سيكون من المفيد جدّاً أن يحتفظ المواطنون ببوصلة الجائحة، التي نجحت بشكل كبير في توجيهنا إلى ما هو أساسي وجوهري، سواء في حياتنا كأفراد أو في حياتنا كمجتمع، تماما كما نجحت في إعلاءِ قيم العلم والعقل، وقيم التضامن والغيرية، وقيم التعلُّم والإبداع والانفتاح والشك من داخل إكراهات العزل وقيود الحجر.

وبما أن الجميع الآن يتأهبون، أو على الأقل يترقبون الانتقال إلى ما بعد الجائحة، فإني آمل أن تكون تجربةُ الحجر قد جعلت كثيراً من العقول تُقرِّر عدم الخروج من حَجْرٍ أصغر إلى حَجْرٍ أكبر، ومن حَجْرٍ مؤقتٍ وزائل إلى حَجْرٍ مقيم ودائم.

عزيز قميشو