تابع..

في هذا المنشور السابع، وهو ما قبل الأخير(الخاتمة)، نتناول الموضوع السادس والأخير من هذه السلسلة المتعلقة بالمسؤولية. وفيه نتعرض لمحاولة إسقاط مفهوم "المسؤولية الفردية" الذي تم تناوله في المقال الماضي على فئة من الناس يربطهم بمواطنيهم تعاقد غير معلن من الناحية القانونية الشكلية، لكنه متعلق بذمتهم من جهة واجب المسؤولية "الأخلاقية".. إنهم المثقفون، أو لنقُل فقط المتعلمون..

ومرحليا، يعتبر هذا الباب من المسؤولية بابا خاصا طارئا فرضته حالة التردي والانحطاط التي يعيشها المجتمع على جميع الأصعدة، ويمكن أن ينتفي عندما يرتفع الداعي الموجد..

وبما أنه(الباب) لا موجب قانوني له، فهو يستمد روحه من "زكاة" المالك تجاه المعدم، وضرورة التضامن والتكافل المجتمعي بين أبنائه في شتى المجالات المادية والمعنوية، وأساسها تقاسم الفهم الكفيل بتعبئة المجتمع وهيكلته وقيادته من أجل المطالبة بالحقوق،، والسمو بالأمة.. فموجب المسؤولية هنا يمكن أن يكون مزجا بين واجب المسؤولية الفردية، ومترتب دين المجتمع الثابت في عنق "المثقف" بفعل تضحيات التكوين..

هي إذن مسؤولية سياسية حقوقية نضالية، تشمل كل أطياف المجتمع السياسية والفكرية، بل والعقائدية، بحيث يجب على مثقفي كل القوى والتيارات المختلفة المشارب والمنطلقات أن تتكاتف من أجل إسقاط الاستبداد..

هي مسؤولية خوض معركة الوعي من أجل كسب جمهور، وخلق رأي عام ذي قوة ضاغطة في معركة ساحتها الإعلام، ومجالها التنافس في الاستقطاب، وفئتها المستهدفة أفراد الشعب..

إنها مسؤولية فرعية من المجال الأوسع: إعمار الأرض والسعي لتحقّق العدل والحرية والكرامة لكل الكائنات..

ووجْه توجّب هذه المسؤولية وحجمها يختلفان حسب الزمان والمكان والحالة الحضارية السائدة في ذلك الظرفين، وفي كل ظرف محدد من هذه الظروف، هما يختلفان أيضا من شخص لآخر، حسب حاجة المجتمع إلى التغيير، وحسب موقع الشخص ومرتبته بين الناس انطلاقا من القيم والعقائد التي يؤمنون بها، ثم حسب الفرص والإمكانات المتاحة لكل شخص..

وإذا كنا لا نختلف أن مجتمعنا حاليا هو في أقصى وأقسى درجات الحاجة، بما يعيش من تردٍّ على كل المستويات دون استثناء.. وأضفنا أننا هنا نتحدث بخصوص الإنسان المتربع على أعلى الهرم في هذا المجال("المثقف")،، فإنا نصل مباشرة إلى البعد أو المكون الثالث، أي المتاح، فمتى سنح، تضخم حجمها وتضاعف ثقلها على كاهل من توجبت عليه..

والمتاح في زماننا هذا فتح كبير لم يتسنّ لمن قبلنا الحلم به.. فقد فُتحت أمامنا هذه الأبواب المشرعة الميسرة للتعبير والنشر والتواصل: شبكات الأنترنيت ومنصات التواصل الاجتماعي.. وهي فرص عظيمة لم تكن متاحة لأناس ودّوا لو كانت، وتشكل المجال الوحيد لممارسة الديمقراطية والمساواة والعدالة "الافتراضية"، بحيث أنها -مبدئيا- تخول للأسير أن يقول ما يقوله الأمير، ولئن كانت التبعات بعد ذلك ليست نفسها، إلا أن الهوامش مختلفة في الزمان والمكان، لكن الثابت فيها هو الوجود وإمكانية الاستغلال، وفوق طاقته الإنسان لا يلام..

بالمباشر، المسؤولية المتحدث بشأنها هنا هي تلك الملقاة على عاتق "المثقفين" لاستغلال فضاء النشر والتواصل المتاح، والعمل على تأطير الناس وتوجيههم في أفق خلق جبهة تسترد الحق المسلوب..

وتفاديا لبخس العمل المقصود، واستباقا لما قد يطفو من ازدراء لهذا المتاح أو استصغار دوره، وللتدليل على مكانته، يمكن استعراض بعض القرائن واستقراء مضامينها واستنتاج دلائلها ودلالاتها:

- سعي العصابات المتسلطة الدؤوب إلى "تأميم الرأي"؛

- تضييقها على المنشورات المخالفة بشتى أنواع الوسائل، بين الترغيب والترهيب؛

- "تبنيها" المحموم لكل "بائعي الهوى المنشور"؛

- تحريكها لأسراب "الذباب الإلكتروني" عند الحاجة؛

- تأسيس مئات الصفحات في الفيس بوك وحسابات في التويتر بحسابات وهمية عن طريق "ربوتات"(كما صرحت بذلك إدارة فيس بوك، مواكَبة للانتخابات الرئاسية التونسية قبل الماضية، عن العدو الصهيوني، وإدارة توتير قبل أيام، عن الإمارات ومصر)...

واقعيا، تقوم الأنظمة بكل ما يمكنه تعزيز مكانة الإعلام بصفته آلة صنع رأي عام مؤيد لها في الصراعات القائمة.. كما يشن علينا الأعداء الحضاريون في الخارج حروبا إعلامية شعواء، ويبذلون قصارى الجهد من أجل التعتيم والسيطرة الإعلامية قصد التوجيه والإخضاع المجاني، دون خسارة الأرواح والتعرض للإحراجات والمظاهرات والمعارضات..

في المقابل، وفي إطار البرهنة بالخلف، نتصور أن الناس يقولون قولا واحدا، هل يجرؤ المستبد على مخالفته؟

الجواب: لا، وهو(الجواب) ليس وليد محض التصور التوقعي، وإنما نتاج أحداث واقعية اضطرت الحكومات إلى التراجع فيها عن قرارات نتيجة ضغط الناشطين.. بل الناشطون أقاموا ثورات بفتيل الإعلام..

ولأنه يستحيل تأبيد الضبط بالقوة، خاصة عند تكاثر المعارضين، فإن السباق نحو استمالة المتلقي وضمه إلى جوقة المؤيدين لتكثير السواد هو الهدف، والمخاطبون فيه هم الناس، وسبيل ذلك هو الإعلام، ومظهره هو المنشورات، وأدواته هي التلفاز والجرائد واللوحات والمنشورات الورقية والمنابر، وأغلب هذا محجوز للنظم، لكن من رحمة الله أن بقي لنا ما يمكن أن ننافس فيه ومن خلاله: الشبكة العنكبوتية ومنصات التواصل الاجتماعي..

ولو لم يكن لها دور، كما قد يدعي مدعٍ يبرر نكوصه وتخاذله، لما سعت الأنظمة سعيها الحثيث المحموم السابق الإشارة إلى بعض آلياته.. ولأن مجال اهتمام العدو يدل على مكامن خوفه وحلقته الأضعف، فيجب الاهتمام بهذا المجال بخلق "بريسينغ" عليه يجعلنا نربح جزء من المستهدفين، ننقصه من رصيده، ونضيفه إلى رصيدنا..

طبعا لا يمكن أن يكون الناس على قوة وقدرة وإمكانية وشجاعة رجل واحد، لكن من رحمة الله أن الهامش واسع، فلا يجبن أحدنا إلى درك الأسفلين، ولينظر إلى أعلى ناجٍ مستوى وليقتدِ به، في أفق أن نرتقي جميعا إلى ذلك المستوى، فينبعث منا ذوو الهمة، فيسْمون درجة، فنتبعهم، وهكذا... غير المقبول هو الركون، أو الحرص على المرتبة قبل الأخيرة.. وأعلى ما يكون المنكفئ درجة علمية ومرتبة ثقافية، أنذل ما يكون!!!..

إن قيادة المجتمع والدفاع عنه، في الهامش المتاح، هي مسؤولية وأمانة في رقبة مثقفيه الذين يجب ألا يغمض لهم جفن هانئ في المحنة التي نعيشها. بل يجب أن يعملوا على فضح الفساد واستنكاره، لأنه بالإضافة إلى المسؤولية الأخروية، وهي الكافية بالنسبة للمؤمنين، إضافة إلى ذلك، لا شك أن لهؤلاء المعقود عليهم الأمل أبناء وإخوان وأهل لا يستطيعون الاطمئنان على حياتهم ولا مستقبلهم، وبالتأكيد لا يريدونهم أن يعيشوا حياة "الخلعة" التي عاشوها هم،، ولربما أدهى وأمر.. والمجدّ الصادق الواعي برسالته،، لن يعدم الوسيلة..

إنه الدور المنوط والمهمة الحصرية لما يسمى "حداثيا" بالنخبة المثقفة الطموحة.. وهي فئة من الناس لم يرفع أمةً -عبر تاريخ الإنسانية- غيرُها، بما يفترض في أفرادها أن يكونوا قاطرة السمو بالمجتمع على الصعد الاجتماعية والحقوقية والنضالية... الذين يجب أن يتمايزوا عن الدهماء من القوم..

والطموح يشكل هنا أهم حافز، وبما أنه مباح، فأن يكون في العُلى أولى، وأعلى العلى أوج القيادة المجتمعية. وبما أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، ولأن الناس عزائم والعزائم هامات، قد لا يصل الكل ذروة سنامها، بما آن الناس ليس لهم نفس الاستعداد لأنهم لا يتماثلون كيفا ولا يتطابقون كمّا،، ومع هذا فإنه لا يجدر بأحدنا الرضى بالحضيض،، خصوصا إذا كان اختياريا،، وكان المتاح الآمن فسيحا!!..

وبالتضاد فإن الحديث هنا لا يمكن أن يخص من لا يعير أدنى اهتمام بأمر الشعب ولا يتابع حتى أخباره(هاتفه لا يتضمن أدنى تطبيق لمواكبة الأحداث: لا قناة إخبارية معتبرة، ولا اشتراك في شبكات التقاسم وخلق الرأي وتوجيهه(فإذا ما اشترك تجده يروج لأبنائه وأكله وسفرياته!!!..))..

كما أن الحديث لا يجدر أن يتصل بمن قتل الفراغُ والتفرغ للمعيش والجبن المركب فيه كلَّ محاولة للانبعاث ولو في حدوده الدنيا، وهذا والله من مكائد شياطين الجن والإنس الذين يخوّفون أولياءهم ويعدونهم الفقر، ولا يتركون لهم ولو بصيصا يبقيهم في إنسانيتهم، مع أن المجال واسع، يمكن لكل شخص أن يقاوم من مستوى الجرأة الذي يناسبه..

وأيضا الكلام لا ينطبق على الخلق "الأولي"/"القاعدي" الذي تفرّغ لمشاغل الكائن الحي المكتفي بتلبية احتياجاته البيولوجية الدنيا وغرائزه ونزواته المادية في الاقتيات والتناسل، ولا يستطيع السمو عن رواسب المادة التي لا تميزه بصفته إنسانا عن غيره من الخلائق، ولا مشروع له يميزه بصفته إنسانا، ثم مسلما، ثم متعلما، ثم مثقفا، وكل صفة من هذه الصفات ترفع مستوى مسؤوليته،، وترهقه بها في نفس الوقت..

يتبع..



 سعيد المودني